روي لنا أبو حيان التوحيدي : في كتابه ( المقابسات ) - أنه سمع أستاذه سليمان المنطقي السجستاني يقول : نزلت الحكمة علي :- رءوس الروم ، وألسن العرب ، وقلوب الفرس ، وأيدي الصين . وليس في وسع أحد أن ينكر أن الحضارة العربية قد خلفت لنا فكرا ، وعلما ، وفنا ، ولكن أحدا لا يستطيع أن يجحد دور اللغة والبيان ، واللسان ، والبلاغة ، في شتي مرافق الحضارة العربية .
وقد كان * الكلام * - عند الانسان العربي - سلوكا . صحيح أن هذا السلوك لا يزيد - عند البعض - عن كونه مجرد * سلوك لفظي * لكن الرجل كان يري فيه ترجمانا يعبر عن كل شخصيته ، ولسان حال ينطق باسم ذاته العميقة . ولهذا قال حكماء العرب : ( ان الكلام ترجمان يعبر عن مستودعات الضمائر ، ويخبر بمكنونات السرائر ، لا يمكن استرجاع بوادره ولا يقدر علي رد شوارده ولم تكن الحكمة العربية بغافلة عن دور الكلمة في حياة الانسان : فانها كانت علي وعي بما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم حين توجه بالنصح الي معاذ فقال :
يا معاذ سالم ما سكت ، فاذا تكلمت ، فعليك ، أو لك أجل فإن كلامك من عملك ، يشهد لك أو يشهد ضدك ، إن الكلمة من قائلها بمعناها في نفسه ، لا بمعناها في نفسها ، وهو حين ينطق بها ، فإنها تحكم عليه ، أكثر مما يحكم هو عليها ، وهي حين تكون محكومة معقولة ، فإنها تجيء لتوضح حقا ، أو تدحض باطلا ، أو تنشر حكمة ، أو تذكر نعمة ، وأما حين تكون هوجاء طائشة ، فإنها قد تكشف عن جهل ، أو تسبب ضرا ، أ, تذيع سرا ، أو تتلف نفسا . صدق رسول الله
وقديما قال سقراط لشاب كان يديم الصمت :* تكلم حتي أراك *
وإلي هذا المعني أيضا ذهب الإمام علي _ كرم الله وجهه _ حين قال : تكلموا تعرفوا _ فإن المرء مخبوء تحت لسانه _ ومعني هذا القول أن عقل الإنسان مخبوء تحت لسانه فلا شيء أولي بطول حبس من لسان يقصر عن الصواب ، ويسرع الي الجواب ، ولا حاجة بالعاقل الي التكلم إلا لعلم ينشره ، أو غنم يكسبه ، وهذا ما عبر عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال : ( رحم الله من قال خيرا فغنم ، أو سكت فسلم ) صدق رسول الله .
ومما يروي عن عمر بن عبد العزيز في هذا الصدد - أنه قال : ( من لم يعد كلامه من عمله ، كثرت خطاياه ) وكل هذه العبارات - وغيرها كثير - إنما تكشف عن تقديس الأنسان العربي للكلمة . وتقديره لدور ( اللسان ) في حياة الأنسان .
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يشغل الأدباء والشعراء مكانة كبري في الحياة الإجتماعية والسياسية للأمة العربية : فقد كانت بلاغة اللسان ، وقوة البيان ، وسحر الكلمة ، شروطا أساسية لابد من توافرها في السياسي الناجح ، والحاكم النابه ، ورجل الدولة المرموق .
وقد كان من بين السمات الرئيسية للسياسي العربي أن يملك لسانه بحيث يعرف كيف يأتي بالكلام في موضعه ، لأن تقديم ما يقتضي التأخير عجلة وخرق ، وتأخير ما يقتضي التقديم توان وعجز ، ومن هنا فإن السياسي العربي - في معظم الأحيان - كان رجلا حكيما يدرك أن الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به ، ويعرف أن ما لا ينفع من الكلام هذيان وهذر ، ويعلم حق العلم أن لكل مقام قولا ، وقد اهتم حكماء العرب بشرح شروط الكلام ، لا للرجل السياسي وحده ، بل لكل من يضعه منصبه موضع المعلم أو المرشد ، فقال إن الشرط الأول من شروط الكلام أن يكون القول لداع يدعو إليه ، إما في اجتلاب نفع ، أو دفع ضرر ، والشرط الثاني : أن يأتي المتكلم بقوله في موضعه ، ويتوخي به إصابة فرصته ، والشرط الثالث : أن يقتصر منه علي قدر حاجته ، في حين أن الشرط الأخير أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به ، خصوصا أن اللسان عنوان الإنسان يترجم عن مجهوله ، ويبرهن عن محصوله ( علي حد تعبير بعضهم ) .
وحينما قال الشاعر العربي القديم :
كفي بالمرء عيبا أن تراه له وجه وليس له لسان
فإنه كان يشير بذلك إلي أهمية * البيان * بوصفه مقوما من مقومات شخصية الإنسان . وقد روي عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه قال يوما لعمه العباس : يعجبه جمالك قال : ( وما جمال الرجل يا رسول الله ؟ قال لسانه وهكذا كان جمال الرجل - في رأي الرسول - وثيق الصلة بفصاحة لسانه ، ورجاحة عقله ، ولم يكن الصحابة بغافلين عن صلة اللغة بالفكر ، فكانو يعدون كلام المرء برهان أصله وترجمان عقله وإلي هذا المعني ذهب الإمام علي - كرم الله وجهه - حين قال : لسان العاقل وراء قلبه ، وقلب الأحمق وراء لسانه .
ساحة النقاش