عمـارة الأمـاكـن المقدسـة ..... مشعـر منى , مكـة المكـرمة
بقلم :
الدكتـور / عـلي مهـران هشـام
-----------------------------------------------
تؤثر العوامل المناخية علي درجة نشاط الإنسان وعلاقاته الروحية والاجتماعية لذلك فإن التخطيط والتصميم العمراني المتوازن والأمثل يتطلب رؤية ومعالجات خاصة تتناسب وقدسية المكان ومتغيرات البيئة والمكان.
مكة المكرمة هي العاصمة المقدسة للمملكة العربية السعودية ولها أسماء عديدة منها أم القري وبكة والبلد الحرام والبلد الأمين وتحظي بتقديس ومكانة خاصة لدي أكثر من بليون مسلم في شتي أنحاء الدنيا حيث يقصدها آلاف المسلمين من كل صوب لأداء مناسك العمرة والحج حيث المسجد الحرام والكعبة المشرفة والصفا والمروة وبئر زمزم ومقام إبراهيم عليه السلام وترتفع مكة عن سطح البحر 335 متراً وتتجاوز مساحتها 4800 هكتار ويزيد سكانها علي 600 ألف نسمة وتبعد عن جدة حوالي 80 كيلومتراً ويقع علي مقربة من مكة المشاعر المقدسة مني والمزدلفة وعرفات.
من مناسك الحج أن يبيت الحجيج في مني يومين لمن تعجل أما الليلة الثالثة فتكون واجبة في حق من تأخر ولابد للحاج أن يكون داخل الحدود الشرعية لمني مما يعني تواجد أكثر من مليوني حاج في منطقة مني كل عام وتبلغ مساحة المنطقة الشرعية لمني حوالي ستة ملايين متر مربع منها مليونا متر مربع عبارة عن سفوح وسلاسل من الجبال الوعرة مما يجعل من مشعر مني في موسم الحج أكثر بقاع الأرض كثافة سكانية وازدحاماً وبياضاً في الشكل والروح.
كما هو معروف من مناسك الحج أن يرتدي الحاج عند الإحرام ثوباً واحداً عبارة عن إزار ورداء أبيض للرجال فالناس في هذا المقام سواسية لا فرق بينهم للون أو جنس أو لغة أو منصب أو جاه أو مال "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" هذه المنظومة البشرية والروحية الناصعة والطيبة في اللون والمذاق والوظيفة هي مرآة لعمارة الأماكن المقدسة التشكيل العمراني والفراغات والواجهات والطابع الوظيفي والجمالي للهياكل المعمارية في هذه البقاع الطاهرة لابد أن يتسم بعدم المبالغة في التكاليف وعدم التباهي والتفاخر بالأطر العمرانية وأن يسود التصميم التركيز والبساطة وعدم الإسراف وعدم لفت أنظار الحجيج إلي تفصيلات معمارية كثيرة حتي لا يتشتت فكرهم وذهنهم وتركيزهم فالمقام للعبادة والدعاء والتواجد مع الله والبعد عن الدنيا وزخارفها الكاذبة والفانية؟!!
إن صفاء ونقاء اللون الأبيض علي أجساد وقلوب الحجيج وتجانس ذلك مع لون السماء والرمال والهضاب يوجه إلي حد كبير نمط العمران والإسكان في مشعر مني "التوافق مع المناخ ــ الألوان ــ الارتفاعات الكتلة والفراغ ــ الخدمات والمرافق ـ الممرات والطرق.. إلخ".
علي كل حال. تعرضت منطقة مني في موسم حج 1997 لحريق هائل ومروع التهم أكثر من 70% من إجمالي الخيام التقليدية بمني وراح ضحيته أكثر من ألف حاج بين شهيد ومصاب من أجل ذلك كان من الضروري حماية الحجيج وتوفير السلامة والأمان من إيجاد بدائل عمرانية لمشعر مني والذي تصل الكثافة فيه إلي أقل من مترين مربعين لكل حاج.
من أجل توفير بيئة سكنية ومعيشية آمنة للحجاج في مشعر مني تم عمل مجموعة من البدائل العمرانية وتحليلها ثم اختيار البديل الأفضل منها والذي يتناسب وقدسية المكان والتكيف مع البيئة المناخية والروحية له ويحقق الراحة والأمان وتأدية المناسك في يسر وطمأنينة ثم العودة بأمان إلي أرض الأوطان بعد أن يتقبل الله سعيهم وحجهم ويعودوا إلي الدنيا من جديد كما ولدتهم أمهاتهم دون ذنوب أو خطايا.
عموماً. هناك بدائل كثيرة نستعرض أهمها:
* المنشآت الخفيفة بمستوي واحد والألواح المعدنية المموجة: وهي عبارة عن هيكل فراغي لسقف الوحدات بحيث يكون السقف مكوناً من ألواح معدنية منبسطة مثبتة علي هيكل فراغي علي شكل جمالونات مثبتة
علي قواعد متباعدة بمسافة 15 متراً ويزود السقف بفتحات للتهوية وتقسم المساحة المسقوفة بواسطة ألواح خرسانية أو مصنعة من مواد غير قابلة للاشتعال لتشكل غرفا لإسكان الحجاج وقد يكون السقف مكوناً من ألواح معدنية مضلعة وبشكل أقواس تثبت علي أعمدة ويتم استعمال جدران خارجية لتحديد فراغات السكن وهذه الجدران مقاومة للحرائق وتشبه المظلات أو المستودعات.
* البديل العمراني الياباني:
اقترح الاستشاري الياباني كنز وتانج أن يسكن الحجاج الذين لا يجدون مكاناً في الوادي عند أسفل الجبال في مبان متدرجة من الخرسانة ويمكن أن تستوعب 300 ألف حاج وتتكون من خمسة طوابق الطابقان العلويان كمواقف للسيارات وقت الحج وكمخازن في الأوقات الأخري فالفترة التي يقضيها الحجاج في مني لا تتجاوز خمسة أيام ثم تبقي منطقة إسكان الحجاج خالية تقريباً طوال العام انتظاراً لقدوم الحجيج في العام القادم. أما وادي مني فتخصص للحجاج باستخدام الخيام التقليدية بعد تحديثها لتكون مقاومة للحريق والعواصف والرياح وتحقق السلامة المعيشية كما اقترح المهندس الياباني إنشاء مركز للحج في مدخل المنطقة يستخدم كمركز سياحي طوال العام لتعمير المنطقة كما اقترح كنز وتانج وجود قطار كهربائي يسير تحت الأرض يربط بين مدن مكة المكرمة وجدة والطائف والمشاعر المقدسة "مني ــ المزدلفة ــ عرفات" أما منطقة الجمرات فتحاط بمدرجات بحيث ينزل الحاج إليها من الطريق الرئيسي ويعود منها بواسطة طريقين جانبيين لعدم التصادم والتزاحم.
· البديل المقترح لإسكان الحجاج بمشعر مني:
التصميم المقترح والذي تم تنفيذه عبارة عن خيام جديدة غير قابلة للاشتعال ومصنعة من الأنسجة الزجاجية المغطاة بمادة التفلون وتشتمل علي مكيفات صحراوية وإضاءة ورشاشات إطفاء الحرائق بطريقة ذاتية مع وجود طفايات للحريق منفصلة وخراطيم المياه التي تركب علي نقاط تغذية المياه والتي تغذي من خزانين موجودين في الجبال خارج منطقة مني ــ الوحدات السكنية للحجاج مرتفعة من وسطها تكيفاً مع شكل الخيمة العربية والمواد المستخدمة لا تنبعث منها غازات سامة وتقاوم الحرائق وألوان الوحدات بالبيج الفاتح الذي يتلاءم مع زي الإحرام والطبيعة المقدسة لمشعر مني.
·
يتسم التصميم المقترح بالملاءمة البيئية والوظيفية لإسكان الحجاج بمني إضافة إلي الملاءمة الوظيفية في الشكل والمضمون حيث يتوسط المخيم مجموعة من دورات المياه وأماكن الوضوء مع فصل الرجال عن النساء كما أقيمت خيمة عند المدخل الرئيسي للمطوف وبجانبها يقع المطبخ الذي يسمح بتجهيز الطعام وتوزيعه علي الحجاج وبجواره موقع خاص لتجميع النفايات ونقلها خارج المخيم وتوجد عدة بوابات رئيسية علي السور المعدني المحيط بالمخيم يسهل فتحها عند الطواريء ويتخلل المخيم مجموعة من الممرات المرصوفة والمزودة بالإنارة والعلامات الإرشادية ومخارج الطواريء. المخيم ذو أبعاد نمطية للخيمة 8*8 أمتار
·
· "موديول" بحيث يمكن توظيفها طبقاً لمساحات قطع الأراضي وطبوغرافية الأرض وطبيعة الموقع والوحدات داخل الخيام يمكن فصلها إلي وحدات أصغر لتحقيق الخصوصية وبما لايتعارض مع الطابع العام للتصميم ولا تحتوي الخيام علي أية حوائط ثابتة ويصل ارتفاع الجزء المستقيم من الخيمة إلي ثلاثة أمتار يعلوه الجزء الهرمي والمزود بفتحة تسمح بالتهوية الطبيعية دون أن تسمح بدخول المياه في حالة سقوط الأمطار مع تزويد الخيمة بمآخذ للإضاءة والطاقة الكهربائية وقد راعي التصميم المعايير التالية:
* مراعاة النواحي الروحية وقدسية المكان "الألوان ــ الفراغات ــ الحركة ــ البيئة".
·
* ملاءمة الخدمات والمرافق مع أعداد الحجاج وسهولة الوصول إليها.
* البساطة وعدم الاغتراب والرمزية في التصميم بما يحقق جمالية التشكيل العمراني العام.
* توظيف النباتات والأشجار لتنقية البيئة العامة وتوفير الظلال وتجميل الموقع.
* مراعاة المقياس الإنساني في التصميم وكذلك الظروف الاجتماعية
والثقافية المتنوعة للحجاج وكذلك الجانب الاقتصادي والبصري.
إن مشروع إسكان الحجاج بمشعر مني يمثل نموذجاً تطبيقياً لعمارة الأماكن المقدسة التي تحقق التوافق الوظيفي مع البيئة الطبيعية والروحية للمكان.
كما يمثل تجسيداً لتناغم الأبعاد البصرية مع الوظيفية في مقطوعة
عمرانية موسيقية جميلة أوتارها وعازفوها
حجاج بيت الله وضيوف الرحمن.
والله المستعـان,,,,,
ساحة النقاش