الحريات التي أغرقتنا
بقلـم دالـيا رشـوان
www.alameron.com
ثورة مصر فجرت سيل من الحريات غرقت فيه .. أخذ المصريون حريتهم ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام حالة لم يحلموا بها من قبل ولم يتعاملوا معها .. مفردات هذه المرحلة مفردات غريبة على مجتمعاتنا العربية .. ظن كل فرد من أفراد المجتمع أن إرادته هي التي يجب أن تسري ونسي أنه ما يتحدث عنه ديكتاتورية من نوع آخر .. ولكنني اعذر الناس فكيف لأجيال معظمها لم ير الديمقراطية والحرية منذ ولد أن يتعامل معها بالنضوج الكافي.
المراقبون للساحة المصرية غاضبون بل إن بعضهم يعتقد أن التجربة الديمقراطية فشلت، ولكنني وجدت أنه يجب علينا تحليل هذه الأزمة بموضوعية حتى نخرج بإجراء ننقذ به حريتنا من أن تنهبها جهات تتمنى لنا السقوط في الهاوية.
لم يكن من المنطقي نظريا الإعتقاد بأن الديمقراطية ستبدأ بمجرد سقوط الديكتاتور المسألة نظريا وعمليا ستحتاج إلى فترة إنتقالية سواء قصرت أو طالت ولكنها قائمة. الشعب ليس بالوعي والنضوج الفكري الكافي وذلك لم يكن ذنبه بل هذا ما سعى وحافظ عليه النظام السابق حتى يظل الناس في حالة خنوع واستسلام ورضى بالوضع المستبد الذي عانى منه الشعب لسنوات طوال. حاول النظام أن يقي نفسه من وعي الشعب ولكنه لم يكن يتوقع أن طاقة الغضب سيكون لها نفس نتيجة الوعي. الثورة قامت بلا وعي بل بطاقة اندفاعية غاضبة وغير محسوبة. وفي الحقيقة ما كان ليصبح التخطيط الواعي إضافة للثورة بل ربما كان سيؤدي بها إلى الوأد السريع في المهد، والأسلوب الذي ظهرت به هو الأمثل من وجهة نظري.
الآن خرجنا من حالة مواجهة ديكتاتور بالإندفاع الغاضب الغير متزن إلى مرحلة الديمقراطية. ومعنى الديمقراطية بسيط وهو حكم الشعب بالشعب ولكن تطبيقه معقد وهذا ما لا يعيه أغلبية الناس. حكم الشعب بالشعب يفرض أسلوبا آخر مغاير للإنفعالات والتظاهرات والموجات الغاضبة لأنها حتما ستؤدي إلى حرب أهلية. إنها مرحلة العقل والتخطيط وتحديد الأولويات ودراسة الموقف وإثبات الجدية واكتساب الثقة وهي مفاهيم لم نكن قد رأيناها من قبل.
اعتقد الناس أن الديمقراطية تعني أن كل شخص سيستطيع أن يملي رأيه على الجميع ولكن هذا ليس صحيحا فهذا الإعتقاد يعود بنا إلى ديكتاتورية فئة من المجتمع كما ذكرت من قبل أو بمعنى آخر البلطجة. البلطجة هي أنني كلما وجدت الأغلبية تريد شيئا مخالفا لرأيي نزلت الشارع ومارست ضغوطا على السلطات كي تنفذ ما أريد.
كلنا كنا نشتكي من الأنانية التي أصابتنا جميعا في آخر عشر سنوات. لم نكن هكذا ولكن رؤيتنا للفساد يحدث أما أعيننا وتحت أنوفنا دون حياء جعلت بعضنا يشعر أنه لن يستطيع أن يحيا حياة رغدة إلا لو اغتنم الفرصة واغترف كما يغترف الفاسدون. وحين انتهى النظام استمرت الأنانية التي اعتدنا عليها وهي تحتاج إلى مرحلة إنتقالية تغير مثل هذا السلوك وترد الشعور بالأمان والثقة في نظام دولة عادل يعطي كل ذي حق حقه.
الديمقراطية لا تعني أخي أنك ستأخذ ما تريد ولكنها تعني أن الأغلبية سيفعلون ذلك، ولكنها لا تعني أيضا أن الأقلية سيحرمون من حقوقهم ولكن أصبحت من متطلبات الديمقراطية أن تسعى لتحقيق رغبتك بأدوات مختلفة أساسها العقل ومنها الأساليب الذكية في إدارة التوعية الإعلامية، ولا أعني هنا البلطجة الإعلامية التي تسب فيها منافسك وتسخر منه وتشيع عنه الأكاذيب ليتهدم فكره.
الديمقراطية تسمح بالحريات ولكنها لا تعني الفوضى. وهو نظام يحتاج إلى تطوير المهارات الشخصية المعنية بتقبُل إختلاف الرأي وإدارة هذا الخلاف، وتعني أيضا التدرب على الآليات التي تسمح للشخص أو الفئة التي تشكل الأقلية بالوصول إلى تحقيق رغبتها وفرضها على الأغلبية بأساليب ذكية ومناورات لا تسئ لأحد ولا تضر بأحد. هذه الأساليب تحتاج إلى العقل الواعي والتفكير والتخطيط وليس الإنفعال لأن الإنفعال سواء بالغضب أو بأي شعور سلبي آخر يؤثر في قدرة العقل على القيام بوظائفه التي هي أكثر ما يحتاجه الناس في هذه الفترة.
التخطيط ليس عيبا ولكنه يفرض كما ذكرت تحديد الأولويات والهدف والإبتعاد عن خلخلة الإستقرار بل ويجبرك على كسب ثقة الآخرين بالعمل وليس بالباطل، فيستفيد الجميع في النهاية بعد أن أصبحت المنافسة في الصالح العام.
هناك من يقول أن هذا الشعب لا يستحق الديمقراطية فهو لا يعرف كيف يتعامل معها ولكن هذا ظلم للناس وليس معنى أن لدي مشكلة في إتجاه معين أن ألغي هذا الإتجاه تماما. وأظن أن جميع الأحداث التي مررنا بها تؤكد أنه ليس هناك مستحيلا وأننا قادرون على تخطي أي صعاب وعلى خلق أجواء خاصة بنا والتميز بها دون أن يكون لها سابق تاريخي أو سببا منطقيا.
قالوا وهل تقوم الثورات بموعد مسبق؟ وقد قامت. قالوا لن يخرج أحد في المظاهرات وقد خرجوا. قالوا وماذا ستفعل المظاهرات في نظام يمسك بقوة في زمام السلطة وقد سقط. قالوا فراغ دستوري ولم يحدث. قالوا وقالوا وثبت أننا في مرحلة لا يستطيع أحد التنبؤ بما سيحدث بها. وللمتشائمين أقول أنني طوال فترة الثورة كنت أسمع أسوأ السيناريوهات وثبت أيضا أن الحال إتجه إلى أفضلها فلا أريد سماع أي تفكير سلبي بعد الآن. لا أريد سوى شعب يسعى لحل مشاكله. وإحقاقا للحق فإن هذا الشعب لو ترك وحده ما وقع، ولكنها أذيال النظام تصب الوقود على نقاط الضعف التي وإن ظهر فيها شرارات بسيطة لم تكن لتؤدي إلى الإشتعال، ولكن وقود الفاسدين الذين يجوبون الأرض من حولنا بحثا عن الدمار يجعل هذه الشرارات نارا لا تأكل إلا صاحبها.
الإبداع الحقيقي هو في حل المشاكل أينما ظهرت وليس إنهاء نظام كامل لأنه به عيب. فليس معنى زيادة نسبة الطلاق إلغاء الزواج لأنه نظام يؤدي إلى المشاكل، بل البحث عن نقطة الضعف وعلاجها.
وعلى جميع الناس في هذه الأوقات قبول الإختلاف واليقين الكامل في أن رأي الأغلبية لن يضيع أحد بل هي إتجاهات مختلفة يستطيع من خلالها الأقلية تحقيق مطالبهم ولكن بأسلوب آخر عقلاني وغير مباشر.
وأرجو من كل فرد واعي التصدي لأي تصعيد سواء ممن يريدون إيقاعنا في فتن طائفية أو الإيقاع بين الجيش والشعب. ومهما بلغت درجة الإستفزاز إعلم أخي أن من يريد خلخلة الإستقرار يعلم جيدا أدواته ويستخدمها بذكاء ولن يأتي لك بما هو واضح بل بما هو مستفز وخبيث. كن أنت الأذكى ولا تشارك في مناقشات من هذا النوع ولا تنشر تلك الإستفزازات بل أصمت وأوقفها عند حدودك وانصح من حولك.
أما بالنسبة للجهات التي تقدم دورات في التنمية البشرية فعليها التركيز حاليا على مهارات الحوار وقبول الآخر وآليات عرض الآراء وتحقيق المطالب دون المساس بإستقرار الدولة أو إستخدام آليات البلطجة.
ساحة النقاش