مشكلة كبرى متشابكة الخيوط أشبه بشبكة العنكبوت يمر بها المجتمع الآن وربما مجتمعات أخرى كثيرة , ربما لا تلقى كلماتي قبولا من البعض , لكن علينا تشريح مشاكلنا أولاً لتقرير العلاج الملائم لها , حتى وإن كان التشريح مؤلماً لكننا نجرح أحيانا لنطبب المرض .. لابد أن تشرق في أذهاننا حقيقة أن : ( الطاقة هي أساس التحمل ) ولا ينبغي مطلقاً إضافة أحمال وأعباء تتجاوز الحد الأقصى للطاقة وإلا كان الفشل هو نتيجة الحال والمآل وضاعت منا أهداف سامية نرتجيها .
(1) : القضاء { يختنق }
أكواماً من القضايا ملقاه على عاتق القاضي وأصبح رول الجلسة الواحدة يتجاوز ربعمائة بل خمسمائة قضية فكيف يتسنى له وهو بشر دراسة وتمحيص كل هذا الكم الهائل من القضايا لإصدار أحكامه فيها ؟!! وكيف يمكنه سماع المرافعات ودراسة المستندات ومطالعة مذكرات الدفاع في هذا الكم ؟!! بل إن استجمع القاضي قواه وانتحر في عمله انتحارا فمن أين له بالوقت الكافي لذلك ؟!!
والحلول الوحيدة التي يمكننا اقتراحها نوعين : أولاها اقتصادية .. تحتاج للتوسع في زيادة أعداد القضاة وإنشاء العديد من المحاكم ونعتقد أن الميزانية لن تؤهل لذلك . وثانيها فنية .. وقد تضمنها القانون بالفعل ونص عليها لكن لا نلمس تطبيقها عملا بالقدر الكافي ومنها .. منح النيابة العامة سلطة اصدار الأمر الجنائي بغرامة مالية في الجرائم البسيطة فإذا قبله المتهم انتهت الدعوى قبل بلوغها المحكمة وإذا اعترض عليه تقدم الدعوى للقضاء لنظرها وكذلك سلطتي إصدار أمر الحفظ وكذلك الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية على النحو وفي الحالات المقررة قانوناً لتخفيف العبء عن القضاء لكن ما يزال العبء قائماً فالنيابة العامة تضيق كثيرا من استعمال تلك السلطات . لذلك نهيب بالسيد المستشار النائب العام إصدار تعليماته لوكلائه بالتوسع في استعمال تلك السلطات .
(2) : العدالة { تترنح }
كان الأثر الطبيعي لتضخم أعداد القضايا على منصات القضاء بشكل يتجاوز أضعاف مضاعفة لطاقة القاضي هو ترنح العدالة ففي كثير من الحالات تفقد المحكمة قدرتها على دراسة أوراق ومستندات هذا الكم الهائل من القضايا بل ومذكرات المرافعة المقدمة من الخصوم بل وسماع المرافعات التفصيلية بشأنها وأصبح الواقع العملي يفرض على القاضي سماع عناصر الدفوع فقط دون تفسير من الدفاع لدلالة هذه الدفوع ومحتواها إلا في القضايا الهامة والخطيرة ويضطر القاضي لقطع مرافعة الدفاع بقوله الذي أضحى معتادا خاصة في المحاكم الجزئية ( بناء عليه يا أستاذ ) ثم تقليب المستندات في عجالة دون الإلمام الكافي بمحتواها بدقة بل وطبع نماذج معدة سلفا للأحكام لكل نوع من القضايا للاقتصار فيه على ملء بيانات الخصوم ومنطوق الحكم فقط وكان ذلك سببا للوقوع المتكرر في الخطأ ومبررا لدى محكمة الاستئناف والنقض لإلغاء تلك الأحكام أو نقضها حسب الأحوال بسبب الخطأ وهو ما يشكل خطورة كبرى على مستقبل العدالة في البلاد وهو ما يصم بعض الأبرياء في الوقت ذاته بصفة المجرم المحكوم عليه !!
(3) : المشرع { مسرف }
من الملاحظ – وهو ما أثار حفيظة فقهاء القانون وخبرائه – أن المشرع مسهل ومسرف في توصيف الأفعال التي تعد جرائم وفي تقرير عقوبة الحبس منفرداً أو الحبس والغرامة وجوبا أو تخييرا كجزاء عليها ولا يخفى ما في هذا الأمر من خطورة بالغة على أمن وحياة ومستقبل المواطن فهناك الكثير والكثير من الأفعال والامتناعات الجنائية لا تستحق عقوبة الحبس على ذاك النهج المسرف من المشرع فكان الأجدر الاكتفاء في شأنها بعقوبة الغرامة أو بعقوبات بديلة لعقوبة الحبس.
(4) : المواطن { مجرم }
ترتيبا على المشكلات المتقدمة واستمداداً من نتائجها وآثارها وجد المواطن نفسه ضحية لعدد من الأحكام الجنائية الصادرة ضده والتي تصمه ( بصفة المجرم أو المحكوم عليه أو صاحب السوابق ) إما لكون هذه الأحكام قد صدرت نتيجة خطأ قضائي في تطبيق القانون أو تقصير قضائي في دراسة القضايا والإحاطة بها وبمستنداتها بسبب تضخم أكوام القضايا على منصات القضاء وإما بسبب الإسهال التشريعي في تقرير وفرض عقوبة الحبس جزاء لأفعال أو امتناعات لا تستأهل عقوبة الحبس كجزاء لها مثال ذلك إذا نجا المواطن من الحبس في مخالفة مرورية بسيطة فإنه سوف يلقاه في جريمة تموين أو نفقة أو.... أو .... أو ... فالقانون يتربص به لحبسه فيما يستحق وما لا يستحق .... وهو ما قد يقف عقبة تحول بينه وبين ثمة عمل شريف لكونه أصبح مجرما مطاردا أو صاحب سوابق وهو أيضا ما يضيع على الدولة طاقات شبابية مهدرة ومعطلة بسبب مطاردات قانونية متلاحقة وكان يمكن الانتفاع بتلك الطاقات في أعمال بناء الدولة بل وهو أيضا ما قد يعرض المجتمع للخطر إذ قد يتحول بعض هؤلاء المحكوم عليهم المطاردون إلى مجرمون خطيرون لاقتناص الأموال من جيوب غيرهم لتغطية احتياجاتهم بعد فقدهم العمل الشريف . وهو ما نحذر منه دائما ! ونعتقد أن الغالبية العظمى من المواطنين لم تنجو من ثمة أحكام جنائية بعقوبات الحبس صدرت ضدهم في جرائم لم تكن تستأهل ذلك !!
(5) : الاقتصاد { يحتضر }
وكأثر لكافة المشكلات السابقة تجد المواطن المطارد بالعديد من أحكام الحبس المسرف هارباً دائماً فلا هو يتابع عمله أو وظيفته أو ربما مهنته وتكون النتيجة سيئة على الاقتصاد الوطني نظرا لتعاظم أعداد المحكوم عليهم الهاربين الذين يشكلون في مجملهم طاقات بشرية معطلة تعيش عالة على اقتصاد الدولة ولا تساهم في بناء تلك الدولة بثمة جهود وأعمال نافعة تعزز وترتقي باقتصاد الدولة !! بل وقد تستطيل المشكلة لهؤلاء وتتحول إلى مشكلة أمنية قومية إذا تحول بعضهم إلى مجرمون يقتلون أو ينصبون أو يسرقون أو يقومون بأعمال الإرهاب أو البلطجة أو قطع الطريق للحصول بالعنف والقوة على الأموال اللازمة لتغطية احتياجاتهم .. ونهيب أخيراً بالمشرع بإعادة النظر في كافة التشريعات الجنائية وحذف عقوبة الحبس المقررة فيها فيما يتعلق بالجرائم البسيطة وإحلال عقوبة الغرامة محلها دون مغالاة في قيمتها لكون المواطن قد يكون محلا لتنفيذ أكثر من عقوبة غرامة مع استحداث نظام العقوبات البديلة للحبس وفقا لما اقترحته البحوث العلمية الجنائية في هذا الإطار كما نهيب بالسيد المستشار النائب العام بإصدار تعليماته إلى وكلائه بكافة النيابات بالتوسع في استعمال سلطاتهم القانونية في إصدار الأوامر الجنائية وأوامر الحفظ والأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية مع إصدار تعليماته لهم بالتحفظ ألف مرة قبل إصدار أوامر الحبس الاحتياطي وكذا قبل إحالة الدعوى للقضاء الجنائي إلا في الحالات التي تستدعي وتستلزم ذلك ..
وأخيرا أقول :رفقا بالقاضي .. رفقا بالمواطن .. رفقا باقتصاد الدولة ففيه العزة والأمن والحياة الكريمة للمواطنين اذا استقام جسده المعتل !!
مستشار دكتور : حسام عبد المجيد جادو