كنوزمن الصدقات الجارية

كنوز من الأحاديث الصحيحة ،والقرآن وأقوال السلف على شكل بطاقات لمشاركتها على المواقع

هذه قاعدة من قواعد التعامل الإنساني، والتي جاءت في سياق الحديث عن موقفٍ سجَّله القرآن لبيان أصناف المعتذرين عن غزوة تبوك -التي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة- ومن هم الذين يُعذَرون والذين لا يُعذَرون.

يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة:٩٠-٩٣].

ومعنى القاعدة باختصار: «ليس على أهل الأعذار الصحيحة -من ضعف أبدان، أو مرض أو زَمَانة (*١*)، أو عدم نفقةٍ- إثمٌ، بشرط لا بد منه، وهو: ﴿إِذَا نَصَحُوا﴾ أي: بِنِيَّاتهم وأقوالهم، سرًا وجهرًا، بحيث لم يُرجِفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا...، ثم أكّد الرجاء بقوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾» (*٢*).

وبما أن (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) -كما هو مقرر في علم أصول التفسير- فهذا يعني توسيع دلالة هذه القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله سبحانه: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾.

وهذا يدل على أن الأصل هو سلامة المسلم من أن يُلزَم بأي تكليف سوى تكليف الشرع كما أن الآية تدل بعمومها أن الأصل براءة الذمة من إلزام الإنسان بأي شيء فيما بينه وبين الناس حتى يثبت ذلك بأي وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعًا.

أيها المتأمل كلام ربه:

لقد كانت هذه الآية -ولا زالت- دليلًا يفزع إليه العلماء في الاستدلال بها في أبواب كثيرة في الفقه، خلاصته يعود إلى أنه «مَن أحسن على غيره، في نفسه أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن؛ لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرِّط، أن عليه الضمان» (*٣*).

وإذا تجاوزنا الجانب الفقهي الذي أشرتُ إليه بإجمال، فلنتلفت قليلًا إلى ميدان من الميادين التي نحتاج فيها إلى هذه القاعدة، ذلك أن حياتنا تحفلُ بمواقف كثيرة يُفْتَحُ فيها باب الإحسان، وتتاح لآخَرين أن يحسنوا إلى غيرهم فيبادروا بتقديم خدمة ما، وأول هؤلاء هم أهل بيت الإنسان: من زوجة أو زوج أو ولد! فمن المؤسف أن يتجانف البعض هداية هذه القاعدة القرآنية، فيُلحقوا غيرهم اللوم والعتاب الشديد، مع أنهم محسنون متبرعون، فيساهمون بذلك -شعروا أم لم يشعروا- في إغلاق باب الإحسان، أو تضييق دائرته بين العباد.

تأمل هذه الصورة:

يجتهد أحد الناس في محاولة إتقان عملٍ دعوي، أو اجتماعي، أو عائلي، ويبذل جهده، وربما ماله، وهو في هذه الأثناء يطلب من غيره أن يساعده ويعينه على العمل فلا يجد أحدًا، فيبدأ وحده، ويجتهد ويثابر ليُنجح العمل، ويُظهره بالمظهر المشرِّف، فإذا جاءت ساعة الاستفادة من هذا العمل، وظهرت بعضُ الثغرات، وبعضُ النقص الذي لا يسلم منه عمل البشر، فإذا به -بدلًا من أن يُقابَل بالشكر والتقدير، مع التنبيه على الأخطاء بأسلوب لطيف- يُقابَل بعاصفة من اللوم والعتاب! مع أن هذا الشخص قد يكون استنجد بغيره للمساعدة فلم يُنجَد، فواصل العمل وحده، فلما حانت ساعة قطاف الثمرة، لم يجد إلا اللوم والعتاب! بسبب قلة حيلته، وضعف قدرته، أليس هذا من أحق الناس بقوله تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾؟!

ثم أليس أولئك خليقون أن يقال لهم:

أقلـوا عليهم لا أبـا لأبيكمُ

من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا(*٤*)

وأمثال هذه الصورة تتكرر في مواقف أخرى؛ في البيت، في المدرسة، في المؤسسة، وفي الشركة، وفي الدائرة الحكومية، وفي العمل الإعلامي، مع العلماء والدعاة والمحتسبين، ومع غيرهم، فما أحوجنا إلى استشعار هذه القاعدة، وطريقة التعامل مع أوهام أو أخطاء المحسنين؛ لكي لا ينقطع باب الإحسان، فإنه إذا كثر اللوم على المحسنين والمتبرعين، وتقاعس من يُفترض منهم العمل، فمن يبقى للأمة؟!

وهذا كلّه -بلا ريب- لا يعني التنبيه على الأخطاء، أو التذكير بمواضع الصواب التي كان يفترض أن يُنبه عليها، لكن المهم أن يكون ذلك بأسلوب يحفظ جهد المحسن، ولا يفوت فرصة التنبيه على الخطأ؛ ليرتقي العمل، ويزداد جودة وجمالًا.

ومن المهم أيضًا -ونحن نتحدث عن هذه القاعدة القرآنية- أن لا نخلط بين ما تقدم وبين التزام الإنسان بشيءٍ ما، ثم يتخلى عنه بحجة أنه محسن! فإن هذا من الفهم المغلوط لهذه القاعدة، ذلك أن الإنسان قبل أن يلتزم بوعد لطرف آخر؛ فهو في دائرة الفضل والإحسان، لكن إن التزم بتنفيذ شيءٍ، والقيام به، فقد انتقل إلى دائرة الوجوب الذي يستحق صاحبه الحساب والعتاب، ولعل مما يُقرِّب تصور هذا المعنى: النذر؛ فإن النذر: إلزام المكلف نفسه بشيءٍ لم يكن واجبًا عليه بأصل الشرع، كمن ينذر أن يتصدق بألف ريال، فهذا قبل نذره لا يلزمه أن يتصدق ولو بريال واحد، لكنه لما نذر فقد التزم؛ فوجب عليه الوفاء. وهكذا ما نحن بصدده، وإنما نبهت على هذا لأن من الناس من أساء فهم هذه القاعدة، وطردها في غير موضعها، فصار ذلك سببًا في وجود النفرة بين بعض الناس؛ لأن أحد الطرفين اعتقد التزام الطرف الآخر، فاعتمد عليه -بعد الله- ثم تخلى ذلك الطرف عما التزم؛ بحجة أنه محسن! فوقع خلاف المقصود من باب الإحسان.

 

من كتاب عمر بن عبد الله المقبل 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 147 مشاهدة
نشرت فى 19 سبتمبر 2017 بواسطة djana

ساحة النقاش

fadila

djana
شعارنا قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم نسعى لإدخال السرور عليكم ولو بكلمة طيبة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

175,080