جاءت هذه القاعدة في سياق قصة موسى مع فرعون وسحرته، كما قال تعالى عن فرعون: ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ [طه:٥٩-٦٢].
والافتراء يطلق على معانٍ منها: الكذب، والشرك، والظلم، وقد جاء القرآن بهذه المعاني الثلاث، وكلها تدور على الفساد والإفساد (*١*).
قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- مؤكدًا اطراد هذه القاعدة: «وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يُخيِّب أهل الافتراء ولا يهديهم، وأنه يُسحتهم بعذابه، أي يستأصلهم» (*٢*).
• ومن صور تطبيقات هذه القاعدة:
إذا تأملتَ هذه القاعدة وجدتَ في الواقع -وللأسف- من له منها نصيب وافر، ومن ذلك:
١- الكذب والافتراء على الله، بالقول عليه بغير علم بأي صورة من الصور، يقول الله ﷻ: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُِ ﴾ [الأنعام:٩٣].
وقد دلّ القرآن على أن القول على الله بغير علم أعظم المحرمات على الإطلاق! قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:٣٣]، وأنت إذا تأملت في هذا الأمر؛ وجدت أن المشرك إنما أشرك لأنه قال على الله بغير علم!
ومثله الذي يحلل الحرام أو يحرم الحلال، كما حكاه الله تعالى عن بعض أحبار بني إسرائيل.
ويدخل فيها الذين يفتون بغير علم، فهم من جملة المفترين على الله سبحانه وتعالى، كما قال ﷻ: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل:١١٦].
وكلُّ من تكلم في الشرع بغير علم فهو من المفترين على الله: سواء في باب الأسماء والصفات، أو في أبواب الحلال والحرام، أو في غيرها من أبواب الدين.
ولأجل هذا كان كثير من السلف يتورع أن يجزم بأن ما يفتي به هو حكم الله -إذا كانت المسألة لا نص فيها، ولا إجماع- قال بعض السلف: «ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له: كذبت! لم أحل كذا ولم أحرم كذا!» (*٣*).
ولهذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حكمًا حكَم به، فقال: «هذا ما أرى اللهُ أميرَ المؤمنين عمر»! فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: «هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر» (*٤*).
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا -رحمه الله- يقول: «لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدًا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنًا فينبغي هذا ولا نرى هذا» (*٥*).
فعلى من لم يكن عنده علم فيما يتكلم به أن يُمسك لسانه، وعلى من تصدر لإفتاء الناس أن يراعي هدي السلف في هذا الباب؛ فإنه خير وأحسن تأويلًا.
٢- ومن صور تطبيقات هذه القاعدة:
ما يفعله بعض الوضاعين للحديث -في قديم الزمان وحديثه- الذين يكذبون على النبي ﷺ ويفترون عليه: إما لغرض -هو بزعمهم- حسنٌ كالترغيب والترهيب، أو لأغراض سياسية، أو مذهبية، أو تجارية، كما وقع ذلك وللأسف منذ أزمنة متطاولة!
ولو استشعر كل من يضع الحديث على النبي ﷺ أنه من جملة المفترين -وأنه لن يفلح سعيه، بل هو خائب، كما قال ربنا: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾- لارعوى كثير من هؤلاء عن غيهم، ولا ينفعه ما يظنه قصدًا حسنًا -كما زعم بعض الوضاعين- فإن مقام الشريعة عظيم، وجنابها مصان ومحترم، وقد أكمل الله الدين، فلا يحتاج إلى حديث موضوع ومختلق، وليست شريعةٌ تلك التي تبنى على الكذب، وعلى منْ؟ على رسولها ﷺ؟
ومن المؤسف أن يرى لسوق الأحاديث الضعيفة والمكذوبة رواجٌ في هذا العصر بواسطة الإنترنت، أو رسائل الجوال؛ فليتق العبد ربه، ولا ينشرن شيئًا ينسب إلى النبي ﷺ حتى يتثبت من صحته عنه.
٣- ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية الكريمة المشاهدة في الواقع:
ما يقع من بعضهم -وللأسف الشديد- مِن ظلم وبغي على إخوانهم المسلمين، وهذا له أسبابه الكثيرة، لعل من أبرزها: الحسد -عياذًا بالله منه-، والطمع في شيء من لعاعة الدنيا، أو لغير ذلك من الأسباب، ويَعْظُمُ الخطب حينما يُلبِسُ بعضُ الناس صنيعه لبوسَ الدين؛ ليبرر بذلك فعلته في الوشاية بفلان، والتحذير من فلان بغيًا وعدوانًا.
ولقد وقفتُ على كثير من القصص في هذا الباب، منها القديم ومنها المعاصر اعترفَ أصحابها بها، وهي قصص تدمي القلب، وتفتت الكبد؛ بسبب ما ذاقوه من عاقبة افترائهم وظلمهم لغيرهم، أكتفي من ذلك بثلاثة مواقف؛ لعل في ذكرها عظةٌ وعبرة:
١- لما جلس المتوكل -الخليفة العباسي- دخل عليه عبد العزيز بن يحيى الكناني فقال: يا أمير المؤمنين! ما رُؤي أعجب من أمر الواثق! قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن! قال: فوجد المتوكل من ذلك، وساءه ما سمعه في أخيه، إذ دخل عليه محمد بن عبد الملك الزيات، فقال له: يا ابن عبد الملك، في قلبي من قتل أحمد بن نصر! فقال: يا أمير المؤمنين! أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرًا!!
قال: ودخل عليه هرثمة، فقال: يا هرثمة، في قلبي من قتل أحمد بن نصر! فقال: يا أمير المؤمنين! قطّعني الله إرْبًا إرْبًا إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرًا!!
قال: ودخل عليه أحمد بن أبي دؤاد، فقال: يا أحمد، في قلبي من قتل أحمد بن نصر! فقال: يا أمير المؤمنين! ضربني الله بالفالج إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرًا!!
قال المتوكل: فأما الزيات فأنا أحرقته بالنار، وأما هرثمة فإنه هرب وتبدى واجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة، هذا الذي قتل أحمد بن نصر؛ فقطعوه إرْبًا إرْبا!
وأما أحمد بن أبي دؤاد، فقد سجنه الله في جلده (*٦*)!!
٢- تحدثتْ إحداهن -وهي أستاذة جامعية ومطلقة مرتين- فقالت: حدَثَت قصتي مع الظلم قبل سبع سنوات، فبعد طلاقي الثاني قررتُ الزواج بأحد أقاربي الذي كان ينعم بحياة هادئة مع زوجته وأولاده الخمسة، حيث اتفقت مع ابن خالتي -الذي كان يحب زوجة هذا الرجل- اتفقنا على اتهامها بخيانة زوجها! وبدأنا في إطلاق الشائعات بين الأقارب، ومع مرور الوقت نجحنا، حيث تدهورت حياة الزوجين وانتهت بالطلاق!
وبعد مضي سنة تزوجت المرأةُ -التي طُلقت بسبب الشائعات- برجل آخر ذي منصب، أما الرجل فتزوج امرأة غيري!، وبالتالي لم أحصل مع ابن خالتي على هدفنا المنشود، ولكنا حصلنا على نتيجة ظلمنا؛ حيث أُصِبت بسرطان الدم!
أما ابن خالتي فقد مات حَرقًا مع الشاهد الثاني؛ بسبب التماس كهربائي في الشقة التي كان يقيم فيها، وذلك بعد ثلاث سنوات من القضية.
٣- أما ثالث هذه المواقف فيرويه شخص اسمه (حَمَد) يقول: عندما كنتُ طالبًا في المرحلة الثانوية حدثت مشاجرة بيني وبين أحد الطلاب المتفوقين، فقررت -بعد تلك المشاجرة- أن أدمر مستقبله، فحضرت ذات يوم مبكرًا إلى المدرسة، ومعي مجموعة من سجائر الحشيش - التي كنا نتعاطاها - ووضعتها في حقيبة ذلك الطالب، ثم طلبت من أحد أصدقائي إبلاغ الشرطة بأن في المدرسة مروج مخدرات، وبالفعل تمت الخطة بنجاح، وكنا نحن الشهود الذين نستخدم المخدرات.
يقول حَمَد هذا: ومنذ ذلك اليوم وأنا أعاني نتيجة الظلم الذي صنعته بيدي، فقبل سنتين تعرضت لحادث سيارة فقدتُ بسببه يدي اليمُنى، وقد ذهبت للطالب في منزله أطلب منه السماح، ولكنه رفض لأنني تسببت في تشويه سمعته بين أقاربه حتى صار شخصًا منبوذًا من الجميع، وأخبرني بأنه يدعو عليّ كل ليلة؛ لأنه خسر كل شيء بسبب تلك الفضيحة، ولأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب فقد استجاب الله دعوته، فها أنا بالإضافة إلى يدي المفقودة أصبحت مقعدًا على كرسي متحرك نتيجة حادث آخر! ومع أني أعيش حياة تعيسة، فإني أخاف من الموت؛ لأني أخشى عقوبة رب العباد (*٧*).
قواعد قرآنية للدكتور عمر بن عبد الله المقبل
ساحة النقاش