تعتبر هذه الآية قاعدة من القواعد السلوكية التي تدل على عظمة هذا الدين وشموله وعظمة مبادئه، وهذه الآية الكريمة جاءت في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة، يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة:٢٣٧].
ومعنى القاعدة باختصار: أن الله تعالى يأمر من جمعتهم علاقة من أقدس العلاقات الإنسانية -وهي علاقة الزواج- أن لا ينسوا -في غمرة التأثر بهذا الفراق والانفصال- ما بينهم من سابق العشرة، والمعاملة.
وهذه القاعدة جاءت بعد ذلك التوجيه بالعفو: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ كلُّ ذلك لزيادة الترغيب في العفو والتفضل الدنيوي.
ومع أن النسيان أمرٌ جِبِلّي، ليس بوسع الإنسان دفعه؛ إلا أن الآية الكريمة جاءت بالتأكيد على عدم النسيان، والمراد به هنا: الإهمال وقلة الاعتناء.
وفي قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل، وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه (*١*).
إن العلاقة الزوجية -في الأعم الأغلب- لا تخلو من جوانب مشرقة، ومن وقفات وفاء من الزوجين لبعضهما، فإذا قُدّر وآل هذا العقد إلى حل عقدته بالطلاق؛ فإن هذا لا يعني نسيان ما كان بين الزوجين من مواقف الفضل والوفاء، ولئن تفارقت الأبدان، فإن الجانب الخلقي يبقى ولا يذهبه مثل هذه الأحوال العارضة.
وما أعظم أثر العفو! فإنه يقرب إليك البعيد، ويُصيِّر العدو صديقًا.
إذا تعارف الناس الفضل بينهم سهُل على المذنب الاعتراف بالذنب، وسهل على من له الحق أن يعفو، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن حقوق ذواتهم.
ولله ما أعظم هذه القاعدة لو تم تطبيقها بين الأزواج! وبين كل من تجمعنا بهم رابطة أو علاقة من العلاقات!
لقد ضرب بعض الأزواج -من الجنسين- أروع الأمثلة في الوفاء، وحفظ العشرة، سواء لمن حصل بينهم وبين أزواجهم فراق بالطلاق، أو بالوفاة.
أذكرُ نموذجًا وقفتُ عليه، ربما يكون نادرًا، وهو لرجل أعرفه شخصيًا، طلق زوجته -التي له منها أولاد- فما كان منه إلا أسكنها في الدور العلوي مع أولاده الذين بقوا عندها، وسكن هو في الدور الأرضي، وصار هو الذي يسدد فواتير الاتصالات والكهرباء ويقوم -تفضلًا- بالنفقة على مطلقته، حتى إن كثيرًا ممن حوله من سكان الحي لا يدرون أنه مطلق! وإني لأحسبه ممن بلغ الغاية في امتثال هذا التوجيه الرباني: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ ، نعم هذا مثال عزيز، لكني أذكره لأبين أن في الناس خيرًا.
وهذا نموذج آخر، لكن يحكيه قاضي القضية: الشيخ علي الطنطاوي، يقول:
«قضية خلاف بين زوجين، طال أمده، واستفحل شره، وانتهى أمره إليّ، وعرض كل منهما دعواه على صاحبه؛ متهمًا إياه بسوء العشرة، ومطالبًا بحقوق عليه!
وألحت المرأة بطلب الطلاق، وبضم الأولاد إليها دون نفقة، وبعد دراسة دقيقة للقضية؛ تبين لي أن لا سبيل للتوفيق بينهما على حالتهما الراهنة؛ فقررت إجراء تجربة الطلاق لمرة واحدة، وعرَضتُ الفكرة عليهما؛ فلم يترددا في قبولها، وأوقع الزوج الطلقة!
وهنا جعلتُ أذكرهما بحق المودة والرحمة والأولاد، وختمت بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ ، وكان لكلامي أثره العاجل؛ فإذا الزوج يقول: إذا كان الأمر للمودة والرحمة والأولاد؛ فإني متنازل عن كل حق لي عليها، ومستعد للإنفاق على أبنائي ما داموا في كفالتها!
وأجابت المرأة على ذلك بأنها هي أيضًا متنازلة له عن مؤخر صداقها!
وكان من أسباب الخلاف بين هذين الزوجين: أن المرأة كلما استاءت من زوجها حاولت الذهاب إلى بيت أهلها؛ فيمنعها أن تصحب متاعها سوى ما تلبسه!
ولكن ما إن صارا إلى هذه النتيجة حتى تغير الحال، وقال الرجل لزوجه: هذا مفتاح البيت؛ فخذي منه ما تحبين، ودعي ما تكرهين!
ولقد كان لهذا الموقف أثره البالغ في نفسي، وأكثر ما راعني منه: تلك الدموع التي ذرفها كل منهما..» (*٢*).
ولنقف قليلًا عند موقف عملي في سيرة من كان القرآن خُلُقه ﷺ لنرى كيف كان يترجم القرآن عمليًا في حياته: وذلك أنه ﷺ لما رجع من الطائف، بعد أن بقي شهرًا يدعو أهلها، ولم يجد منهم إلا الأذى، رجع إلى مكة، فدخل في جوار المطعم بن عدي، فأمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشًا فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تُخفر ذمتك!
ومات المطعم بن عدي مشركًا، لكن النبي ﷺ لم ينس له ذلك الفضل، فأراد أن يُعبِّر عن امتنانه لقبول المطعم بن عدي أن يكون في جواره، في وقت كانت مكة كلها - إلا نفرًا يسيرًا - ضد النبي ﷺ، فلما انتهت غزوة بدر قال ﷺ: «لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النَّتْنى لتركتهم له» (*٣*).
والمعنى: لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت؛ ذلك مكافأة له على فضله السابق في قبول الجوار، فصلوات الله وسلامه على معلم الناس الخير.
• من صور تطبيقات هذه القاعدة:
في حياتنا مجموعة من العلاقات -سوى علاقة الزواج-: إما علاقة قرابة، أو مصاهرة، أو علاقة عمل، فما أحرانا أن نطبق هذه القاعدة في حياتنا؛ ليبقى الود، ولتحفظ الحقوق، وتتصافى القلوب؛ وإلا فإن مجانبة تطبيق هذه القاعدة الأخلاقية العظيمة، يعني مزيدًا من التفكك، ووأدًا لبعض الأخلاق الشريفة.
ومن العلاقات التي لا يكاد ينفك عنها أحدنا: علاقة العمل -سواء كان حكوميًّا أو خاصًّا، أو تجاريًّا-، فقد تجمعنا بأحد من الناس علاقة عمل، وقد تقتضي الظروف أن يحصل الاستغناء عن أحد الموظفين، أو انتقال أحد الأطراف إلى مكان عمل آخر برغبته واختياره، وهذا موضع من مواضع هذه القاعدة؛ فلا ينبغي أن يُنسى الفضل بين الطرفين، فكم هو جميل أن يبادر أحد الطرفين إلى إشعار الطرف الآخر: أنه وإن تفرقنا -بعد مدة من التعاون- فإن ظرف الانتقال لا يمكن أن ينسينا ما كان بيننا من وُدٍ واحترام، وتعاونٍ على مصالح مشتركة؛ ولذا فإنك تُكْبر أولئك الأفراد، وتلك المؤسسات التي تُعبِّر عن هذه القاعدة عمليًا بحفل تكريمي أو توديعي لذلك الطرف؛ فإن هذا من الذكريات الجميلة التي لا ينساها المحتَفَى به، وإذا أردتَ أن تعرف موقع وأثر مثل هذه المواقف الجميلة؛ فانظر إلى الأثر النفسي السلبي الذي يتركه عدم المبالاة بمن بذلوا وخدموا في مؤسساتهم الحكومية أو الخاصة لعدة سنوات، فلا يصلهم ولا خطاب شكر!
ومن ميادين تطبيق هذه القاعدة: الوفاء للمعلمين، وحفظ أثرهم الحسن في نفس المتعلم، وأعرف معلمًا من رواد التعليم في إحدى مناطق بلادنا (*٤*)، ضرَب مثالًا قيمًا للوفاء؛ إذ لم يقتصر وفاؤه لأساتذته الذين درسوه، بل امتد لأبنائهم حينما مات أساتذته -رحمهم الله-، ويزداد عجبك حين تعلم أنه يتواصل معهم وهم خارج المملكة، سواء في مصر أو الشام، فلله در هذا الرجل، وأكثرَ في الأمة من أمثاله.
ورحم الله الإمام الشافعي يوم قال: «الحر من حفظ وداد لحظة، ومن أفاده لفظة».
وفي واقعنا مواضع كثيرة لتفعيل هذه القاعدة القرآنية الكريمة:
فللجيران الذين افترقوا منها نصيب، ولجماعة المسجد منها حظ، بل حتى العامل والخادم الذي أحسن الخدمة، ولهذه القاعدة حضورها القوي في المعاملة، حتى قال بعض أهل العلم: «من بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ بالتيسير على الموسرين، وإنظار المعسرين، والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير، فبذلك ينال العبد خيرًا كثيرًا» (*٥*).
نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال؛ لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يعيذنا من سيئها؛ لا يعيذ منها إلا هو سبحانه.
قواعد قرآنية. الدكتور عمر بن عبد الله المقبل
ساحة النقاش