عندما نراجع الظروف التي شرع فيها رمضان وصامه المسلمون لأول مرة يظهر لنا دور رمضان العظيم كنقطة قوة في الامة الاسلامية

وعندما نعود الى الظروف والأحوال التي شرعت فيها الصلاة نجد تشابها كبيرا في تلك الظروف من حيث الشدائد والمحن والحرب العقائدية والفكرية التي كانت تشن على المسلمين في الفترتين

فعند تشريع الصلاة كان التعذيب والإيذاء للمسلمين قد تواصل بلا هوادة للعام العاشر على التوالي ثم توفي في هذا العام سند النبي صلى الله عليه وسلم وهو عمه أبو طالب كما توفيت زوجته البارة المعينة له على دعوته خديجة رضي الله عنها فهنا شُرعت الصلاة لتكون قوة للمؤمنين وزادا روحيا لهم يمدهم باليقين والثقة والرجاء والصبر

أما بخصوص رمضان فقد شُرع  بعد الصلاة بخمس سنوات تقريبا أي في السنة الثانية من الهجرة في شهر شعبان  فكيف كانت أحوال المسلمين وقتها؟

كانوا حديثي عهد بالهجرة ومفارقة الديار والعشيرة والأموال في سبيل الله ولم يمض على انتقالهم الى المجتمع الجديد سوى ستة عشر شهرا تقريبا

ـ كانت آية الإذن بالجهاد قد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق الى المدينة ولم يكونوا قبلها مأذونا لهم في القتال .قال تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير...)الاية

 

وفي المدينة ظهرت مشكلة جديدة على المسليمن وهي مشكلة النفاق فهم لم يكونوا في مكة يجدون منافقين يُظهرون لهم الاسلام ويبطنون الكفر فكانت الشخصيات واضحة والتعامل معها واضح إما مسلم وإما كافر أما في المدينة فقد وجدوا أناسا يصلون معهم ويتشبهون بهم فيطمئنون إليهم ولكن إذا بهم يطعنون في رسولهم الحبيب الذي يثقون فيه ويعظمونه ولم يعتادوا أن يعيبه مسلم موحد يشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان هؤلاء المنافقون من النوعية التي توجد في كل زمان وهو الموصوفون بالذكاء واستشراف المستقبل لمعرف توجه الريح ثم الميل معها والتشبه بأهلها ظاهرا فلما رأى هؤلاء أن الاسلام قد انتشر في المدينة ولاقبل لهم بالمسلمين نافقوا

كما أنه في شهر شعبان حدث تحويل القبلة وأنزل الله تعالى قوله( سيقول السفهاء من الناس ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)

فكان تحويل القبلة بابا جديدا شن منه أعداء الاسلام حربا اعلامية فكرية وعقائدية شرسة ورأوها فرصة ونقطة ضعف لدى المسلمين ونقطة قوة وانطلاق لهم.. ظنوا ذلك

ـ فأما كفار العرب فقالوا قد تحول الى قبلتنا فيوشك أن يعود إلى ديننا

أي هاهو سيعود الى ديننا تدريجيا واحدة بعد واحدة.

ـ وأما اليهود فقالوا: أي القبلتين  صواب وأي الاثنين خطأ؟

لقد اعتبر أعداء الاسلام تحويل القبلة نقطة قوة لهم وانطلاقة يشنون منها حملتهم الجديدة في التشكيك والطعن وإثارة الشبهات كما يحدث كثيرا في كل زمان

وأما بعض المسلمين فقالوا: فما بال صلاة اخواننا الذين ماتوا ولم يصلوا الى الكعبة ؟فأنزل الله تعالى يطمئنهم(وماكان الله ليضيع إيمانكم)أي صلاتكم الى بيت المقدس

وكانت هذه الحملة الشديدة مؤثرة على بعض ضعاف المسلمين فارتدوا عن دينهم

ورغم ذلك التشكيك والطعن في الاسلام ورموزه وثوابته إلا أن المسلمين عامة قد ازدادوا إيمانا فقد جاء رجل الى أهل مسجد فوجدهم يصلون فوقف على باب المسجد وقال: لقد أنزل على رسول الله قرآن يأمره بتحويل القبلة الى الكعبة فتحولوا وهم في الصلاة

إذا في هذه الأحوال وفي هذا الجو من

حداثة عهد المسلمين بالمجتمع الجديد ، والإذن لهم بالقتال، وظهور المنافقين، والحملة على الاسلام من المشركين من جهة ومن اليهود والمنافقين من جهة ،وارتداد بعض المسلمين في هذا الجو شرع الصيام وصام المسلمون لأول مرة.

إذا شرع الله تعالى الصيام في ظروف مشابهة للظروف التي شرعت فيها الصلاة ليكون ذلك قوة للملسمين ونقطة انطلاق يواجهون بها انطلاق الباطل والكفر.

وإن هذه الظروف تتجدد وتتشابه في كثير من الأحوال على مر السنين واختلاف الأماكن لأن الباطل موجود لاينقطع وصراعه مع الحق دائم فيحتاج المسلمون دائما إلى هذه القوة التي يستمدمنها من الصلاة والصيام

نعم قوة الارادة وتحريرها من كل القيود النفسية والقلبية

قوة عزيمة واصرار وصبر وتحمل وتضحية وصدق واخلاص

وهذه القوى هي أساس القوة المادية فمهما بلغت القوة المادية بدون قوة عقائدية إيمانية معنوية فلا قيمة لهذه القوة المادية الفارغة من العقيدة

وقد كان بالفعل فما هي إلا أيام من صيام المسلمين حتى وقعت غزوة بدر في السابع عشر من أول رمضان صاموه

فكان هذا اليوم يوم الفرقان بين الحق والباطل لأن الصوم كان فرقانا في النفوس وتمحيصا للقلوب وتحريرا لها من الشهوات والملذات التي تجذب الانسان الى الأرض وتعلقه بها فلا يستطيع أن ينطلق في أي اتجاه يحرمه منها

إن وظيفة رمضان في الأمة الاسلامية هي تحقيق التقوى في قلوب أفرادها وتحقيق التقوى لدى الأفراد يزود الأمة بالقوة المعنوية اللازمة للوصول الى القوة المادية

وإذا أردنا أن ندرك وظيفة رمضان في الأمة فنتصور الأمة الاسلامية بدون رمضان

عندما نتصور ذلك ندرك بسرعة أن رمضان يجدد إيمان الأمة يجدد ربطها بتاريخها يجدد تذكرتها برسالتها وأنها ليست أمة شهوات ولا الشهوات من غاياتها وإنما تحصيل هذه الشهوات وسيلة لإقامة الدين

يجدد تذكرة الأمة بالآخرة

يجدد تواصل الأمة مع القرآن ومن ثم بالله تعالىو بالملائكة وبالرسل ن وباليوم الآخر وبالقضاء والقدر

ويعيش الأمة مع الحقائق الكبرى في الكون والحياة بالموت ومابعده باتساع الكون والخلائق بالحياة الجماعية ووحدة الأمة في العالم كله فيخرج الفرد من ضيق التفكير الفردي الى الشعور الجماعي وهكذا

إن شعور المسلم بالغاية من تحقيق التقوى وبوظيفة الصيام وسائر العبادات في إحياء الأمة وتجديدها وتقويتها ونصرها على أعدائها يجعل الصيام هنا مختلفا عن كونه مجرد عبادة فردية يحقق فيها بعض الروحانيات التي تنتهي بانتهاء الشهر

إن المسلم البصير الواعي يدرك أن كل عباداته وأذكاره وصدقاته لها غاية وثمرة وهي إعداده كفرد في أمة ولبنة في بناء كبير وهو مطالب بدور عظيم في هذه الأمة وله هدف في حياته هو إقامة هذا الدين فعليه أن يفهم الدين شاملا ويربط أجزاءه ببعض ويوظف صفاته كلها لهذا الهدف .

أنظر ماذا يقول الامام البصير الحكيم ابن القيم:

ـ فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ، ونصرة دينه ، وإعلاء كلمته ، وجهاد أعدائه ، وفي محابه وتنفيذ أوامره

ـ ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه ، وحفظ حاله مع الله ، فارغا عن الناس

ـ ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه . من رزق أو عافية . أو نصر على عدو ، أو زوجة أو ولد ، ونحو ذلك

ـ ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش

فأفضل التوكل ، التوكل في الواجب - أعني واجب الحق ، وواجب الخلق ، وواجب النفس - وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية . أو في دفع مفسدة دينية ، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ، ودفع فساد المفسدين في الأرض ، وهذا توكل ورثتهم .

وقال رحمه الله: (وكثير من المتوكلين يكون مغبونا في توكله . وقد توكل حقيقة التوكل وهو مغبون . كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله . ويمكنه نيلها بأيسر شيء ، وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم ، ونصرة الدين ، والتأثير في العالم خيرا . فهذا توكل العاجز القاصر الهمة . كما يصرف بعضهم همته وتوكله ، ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء ، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف ، أو نصف درهم ، ويدع صرفه إلى نصرة الدين ، وقمع المبتدعين ، وزيادة الإيمان ، ومصالح المسلمين . والله أعلم

وقال: فحال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه محك الأحوال وميزانها . بها يعلم صحيحها من سقيمها . فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم مَن بعدَهم .

فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب . وأن يعبد الله في جميع البلاد ، وأن يوحده جميع العباد ، وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد ، فملئوا بذلك التوكل القلوب هدى وإيمانا . وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دار إيمان . وهبت رياح روح نسمات التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينا وإيمانا . فكانت همم الصحابة - رضي الله عنهم - أعلى وأجل من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعي ، فيجعله نصب عينيه ، ويحمل عليه قوى توكله

وماقاله ابن القيم لله دره في وظيفة التوكل يقال في كل الصفات والعبادات ومنها الصيام والثمرة التي توجه إليها نتائجها

 

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 210 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2017 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

291,608