علي الديناري

موقع دعوي يشمل نسمات من القرأن وشروح بعض الأحاديث ومدرسة الدعوةأسرة المسلمة والفكر والقضايا المعاصرة

 

 

- عندما يشتد الكرب و تتعلق القلوب بالنصر وتستغيث ربها ليهب لها الفتح.. يرسم كل منتظر لهذا الفرج صورة مشوقة هي التي تتمناها النفوس.
- وربما تقف الحرب وينتهي الأمر إلى وضع لم يكن هو المأمول سلفاً ولا هو بالحسابات المعتادة نصراً، بل وربما لا تتحقق نفس الأهداف المحددة سابقاً.
- من هنا قد تضعف الفرحة أو يتسرب الإحباط إلى القلوب.. وقد يصبح الحال فرصة مغرية لضعاف الإيمان للتثبيط والتخذيل.. كما أنه قد يثير جدلاً بريئاً أو حتى تساؤلات صامتة بين المرء ونفسه عن معنى الفتح والنصر !!.. وهل هو نوع واحد..  أم للفتوح أنواع وللظهور وجوه ؟ وهذا تقريبا ًما حدث بعد  وقف العدوان على غزة.
- تعالوا بنا إلى سورة الفتح.
- قال البخاري : عن البراء رضي الله عنه قال :( تَعُدُّون أنتم الفتح فتح مكة.. وقد كان فتح مكة فتحاً, ونحن نَعُد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية).
ومعلوم أن يوم الحديبية كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حدد هدفاً واضحاً وأعلنه قبل الخروج من مكة وهو أداء العمرة.. ولكن قريش منعته دخول مكة.. فأرسل إليهم عثمان رضي الله عنه ليفاوضهم فجاءه الخبر بقتله فاستعد لقتالهم.. واشتدت غيرة المؤمنين على دينهم واشتاطوا غضباً لله ورسوله وبايعوا نبيهم على الجهاد رغم أنهم لم يتجهزوا له عسكرياً.. ولكن عاد عثمان فقد كان خبر قتله مجرد شائعة.. وأرسلت قريش للتفاوض بعد أن وُضعت أمام الأمر الواقع وخسرت الرأي العام واهتزت مكانتها.
وبعد الصلح أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالعودة دون عمرة بعد أن كانت نفوسهم قد تهيأت لأمرين : العمرة ثم القتال فلا هذا ولا ذاك.. بل تحقيق رغبة قريش المتعسفة.. فلما لم يتحقق الهدف المحدد سلفاً حزن المسلمون وغضبوا وتحيروا.. وتساءل عمر رضي الله عنه علانية فنزلت سورة الفتح لا لترد على التساؤلات ولكن لتعالج هذه الحالة برمتها لتظل هذه المعالجة القرآنية خالدة تعالج كل حالة شبيهة تكررها دورة الزمان .   
- روى الإمام أحمد - بإسناده - عن مجمع بن حارثة الأنصاري - رضي الله عنه – قال : شهدنا الحديبية , فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر , فخرجنا مع الناس نوجف.
- فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس ? قالوا أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإذا رسول الله على راحلته عند كراع الغميم , فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم( إنا فتحنا لك فتحا مبينا) قال:فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم أي رسول الله أو فتح هو ? قال صلى الله علبه وسلم: إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح.
ونعود إلى عبارة البراء رضي الله عنه ففيها نوعان من الفتح :-
- الأول: فتح مكة فهو فتح البلاد بالقوة والرهبة وإن لم يستخدم السلاح ولم تجر فيه دماء.
- الثاني : البيعة فهو فتح الصمود والثبات والعزمة الماضية والصف المتين الذي تلخصه البيعة.. حتى وإن لم تتم الغلبة على الأعداء.
- والبيعة هنا فتح لأنها تعبر عن اكتمال القوة الإيمانية والحالة النفسية القوية الجاهزة لحسم المعركة.. إنها شرط من شروط العلو والظهور والنصر الأكبر في المعركة الفاصلة المرتقبة.. وقد لا نستطيع أن نتصور هذا في ذاته فتحاً إلا عندما نتصور عكسه.. فهب أن هذا الاستعداد لم يكن موجوداً في هذه اللحظة !! .
- أما سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو وغيره فيقولون : (إنكم تعدون الفتح فتح مكة.. ونحن نعد الفتح صلح الحديبية ).
- وهذا نوع ثالث من الفتوح فتح الصلح :
- قال ابن القيم في زاد المعاد: الفتح  في اللُّغة  فتحُ المغلق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً مُغلقاً حتى فتحه الله.. وكان مِن أسباب فتحه صدُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيماً وهضماً للمسلمين، وفي الباطن عزَّا وفتحاً ونصراً ، أ هـ.
- قال ابن كثير: فقوله( إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ) أي بيناً وظاهراً.. والمراد به صلح الحديبية , فإنه حصل بسببه خير جزيل, وأمن الناس واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والإيمان.                                                           
- بل إن ابن القيم يعتبر هذا الصلح من أعظم الفتوح.. ويذكر عظمة فوائده فيقول : هذه الهُدنة كانت من أعظم الفُتوح، فإن الناسَ أمِنَ بعضُهم بعضاً، واختلطَ المسلمون بالكفار، وبادءوهم بالدعوة، وأسمعوهم القُرآن، وناظرُوهم على الإسلام جهرةً آمنين، وظهر مَن كان مختفياً بالإسلام، ودخل فيه في مُدة الهُدنة مَن شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحاً مُّبِيناً . أ هـ
- ولقد كانت من وراء هذا الصلح حكم إلهية عظيمة ذكر بعضها ابن القيم فى زاد المعاد فقال :
الحِكمِ التي تضمَّنتها هذه الهدنة :
- منها: أنها كانت مُقَدِّمةً بين يدي الفتح الأعظم الذي أعزَّ اللهُ بهِ رسولَه وجندَه، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، فكانت هذه الهُدنة باباً له، ومفتاحاً، ومؤذِناً بين يديه.
- ومنها: ما سبَّبه  سبحانه  للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعانِ، والانقيادِ على ما أحبُّوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضي بقضاء الله، وتصديقِ موعوده، وانتظارِ ما وُعِدُوا به، وشهودِ مِنَّة الله ونِعْمتهِ عليهم بالسَّكِينةِ التي أنزلها في قُلوبهم، أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تَزَعْزَعُ لها الجبالُ.. فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبُهم، وقويت به نفُوسُهم، وازدادوا به إيماناً) أهـ.
- فلفتح البلاد وتحرير الأرض مقدمات وممهدات لابد منها ، ودون هذا الفتح أبواب مغلقة.. وفتح كل باب من هذه الأبواب هو فتح يمهد للفتح النهائي.. وهذه الأبواب والمداخل.. وهذه الأنواع من الفتوح يذكر بعضها الأستاذ سيد قطب في ظلال سورة الفتح فيقول رحمه الله.
@ كان فتحاً في الدعوة
- يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه.. إنما كان القتال حيث التقى الناس.. فلما كانت الهدنة , ووضعت الحرب , وأمن الناس بعضهم بعضا , والتقوا , فتفاوضوا في الحديث والمنازعة , ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه.
- ولقد دخل في تلك السنتين " بين صلح الحديبية وفتح مكة مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.. وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .                 
@ وكان فتحاً في الأرض
- فقد أمن المسلمون شر قريش , فاتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودى.. وكان يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام.. وقد فتحها الله على المسلمين.                   
@ وكان فتحاً في الموقف
- بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة .. يقول الأستاذ محمد عزة دروزة : لا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق.. فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما.. واعتبرت النبي والمسلمين أندادا لها , بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن.
- لقد أثبتت الأحداث عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين ومنها ما يلي :-
أ- قووا في عيون القبائل.
ب- وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار.
ج- ازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتاً وشأنهم ضآلة.
د- استطاع بعد سنتين أن, يغزو مكة ويفتحها.. وكان في ذلك النهاية الحاسمة..(" إذ جاء نصر الله والفتح, ودخل الناس في دين الله أفواجا " ) أهـ
@ فتح في القلوب والنفوس تصوره بيعة الرضوان , التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك      الرضي الذي وصفه القرآن.. ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة : (محمد رسول الله والذين معه).
- وهذا فتح له في تاريخ الدعوات دلالته وآثاره.. أ  هـ من الظلال
- إن أحوج ما تحتاجه الدعوات في مراحلها الأولى هو الفتح في قلوب أتباعها.. بأن تبلغ بإيمانها درجات وأعمالاً من الإيمان كانت أمامها من قبل مغلقة.. فترقى بذلك وتتأهل لحمل الرسالة.
- وأكبر قوة تحتاجها الدعوات هي قوة يقين أصحابها وثقتهم في الحق الذي معهم.. واستعدادهم للتضحية في سبيله.. وهذه قوة ليست سهلة.. والمشوار من أجل تحقيقها ليس قصيراً بل هو أغلب الطريق.
- وهذه القوة اليقينية لايمكن شراؤها إلا بثمن تؤديه القلوب أولاً فيمدها الله بمنح إيمانية ونفحات روحية تكون سبباً لفتح الأرض والغلبة الظاهرة على الأعداء. 
- قال ابن القيم ( علم ما في قلوبهم حينئذ مِن الصِّدق والوفاء، وكمال الانقياد، والطاعة، وإيثار الله ورسولِهِ على ما سواهُ، فأنزل الله السكينة والطُّمَأْنِينة، والرضي في قلوبهم، وأثابهم على الرضي بحُكمه ، والصبرِ لأمره فتحاً قريباً، ومغانِمَ كثيرة يأخذونها، وكان أوَّلُ الفتح والمغانم فتحَ خَيْبَرَ، ومغانمها، ثم استمرت الفتوحُ والمغانمُ إلى انقضاء الدهر).
- إن الإسلام دين حق وعدل ومبادئ.. والجهاد قد شرع من أجل هذه المبادئ والدعوة إليها.. فإذا علت هذه المبادئ وانتصرت على دعوات الباطل وترهاته فهذا في ذاته نصر معتبر.
- إن القرآن يثبت أن ظهور المبادئ وعلو الحجة والبرهان والدليل في ذاته ظهور وعلو قال الله تعالى : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ).. أي بالحجة والبراهين كما قال القرطبى.. وقال في نفس الآية في سورة الفتح.. أي يعليه على كل الأديان بالحجة.. ثم باليد والسيف.
- وقال تعالى للمسيح عليه السلام ( وجاعل الذين اتبعوك ) صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى (فوق الذين كفروا ) بك وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف كما في تفسير الجلالين.
- أما القرطبي فقال( وجاعل الذين اتبعوك ) يا محمد (فوق الذين كفروا )أي بالحجة وإقامة البرهان وقيل بالعز والغلبة.
- فالظهور والعلو أنواع كما ترى :-
- ظهور الحجة والبيان والبرهان.
- وظهور الغلبة والقهر.. وهذا الثاني هو وسيلة للأول.. فإظهار البيان للناس وجلاء حجة الإسلام أمام أعينهم واضحة جلية هو المقصد الأسمى للإسلام.. وكل منهما لازم للآخر.. والتفصيل في ذلك قد يطول وفيما سبق كفاية.
- فاللهم أتمم لنا نورنا.. وأقر أعيننا بنصر الإسلام.. واشف صدورنا بعز المسلمين.
                                                                         ( 2007)

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 166 مشاهدة
نشرت فى 23 يوليو 2015 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

317,391