من أول ساعة يتقدم فيها الخاطب يبدأ القلق والتوجس ويدق قلب المخطوبة..
هذا التوجس ينشأ من ضعف المرأة ومن ترددها؛ فهي من ضعفها تخشى أن تواجه المتاعب في المستقبل.. ومن ترددها يتقلب الأمر أمام عينيها تفكر فيه حينا فتراه جميلا وتفكر فيه حينا آخر فترى فيه المتاعب.
تنظر إلى خاطبها من زاوية فتراه فتى أحلامها.. وتنظر من زاوية أخرى فتتنغص رؤيتها الأولى ولا ترى فيه إلا عيوبا تكرهها و تخشاها.
وهذا القلق والتوجس تغذيه نصائح صديقاتها.. ومشكلات زميلاتها.. وتجارب أمها.. وكذلك ثقافتها وفكرتها عن الزواج وعن الرجال عامة.
ويظل هذا التوجس والارتياب يقوى مرة ويضعف أخرى إلى أن تعايش زوجها، وتعيش معه المواقف، وترى معه حقيقة الأمور.
ثم إن معايشتها لزوجها قد تغذي جذور هذا القلق وتنميها؛ أو على العكس قد ينجح الزوج في تبديد ظلمات القلق من فؤادها ويغرس غرس الأمان الذي ينمو شيئا فشيئا فتنمو شجرة السعادة في بستان الزوجية وتثمر ثمرا مختلفا ألوانه متشابها وغير متشابه.

ما الذي يبذر بذور الأمان؟
وأول ما يبذر في قلب الزوجة بذور الأمان إدراكها لتقوى زوجها لربه وخوفه من خالقه وحذره من الظلم وعواقبه وظلماته.. وكذا قدرته على تحمل مسؤولية بيت وأولاد وهذا الإدراك لا يحدث بكلمة ولا في موقف وإنما من خلال المعايشة والعشرة وتكرار المواقف.
فإن الزوجة التي تستنتج من خلال معايشتها لزوجها أن الدين يمثل له منهجا في حياته العملية .. وأن الشرع هو قانونه الذي يقدسه ويرهب تجاوزه.. وأن الخوف من الله رادع له يحجزه عن ظلمه ويضع حدودا لغضبه .. وأن زوجها رجل بمعنى الكلمة .. هذه الزوجة تعيش في أمان وسعادة حقيقية مهما كانت ظروفها المادية صعبة وقاسية

أوان البذر
إن إنبات الأمان في قلب الزوجة يبدأ من أول يوم يرتبطان فيه ويتفقان على قواعد حياتهما ومبادئ علاقتهما والأساس الذي سيضعانه سويا لعشهما الجديد وبستانهما السعيد.
منذ أول يوم يجب أن يبذر الزوج بذرته بأن يرسى قاعدة ضرورية وهى أن شرع الله مرجعنا منه نستمد تصوراتنا ومنهجنا في الحياة كأسرة فنحن متفقان على إقامة شرع الله في بيتنا.
وإليه نرجع إليه إذا اختلفنا.. فهو الحكم الذي لا يجوز أن نتحاكم لغيره وحدود الله حدودنا التي نقف عندها ونخضع لها ونسلم لها الرقاب.. ولا يطالب أحدنا الآخر بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

دور المواقف فى إنبات الغرس
ولكن يظل هذا الاتفاق نظريا إلى أن تأتى المواقف والمواسم المختلفة فتمتحن الزوجين بدقة فيما قالته الألسن في السعة.. وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان وقد ينجح الزوج في التهرب من حكم الله دون أى مغبة من زوجته الضعيفة أو رد فعل.. لكنه في نفس الوقت قد بذر في وجدانها بذرة فاسدة وغذى من حيث لا يشعر ذلك التوجس القديم والقلق الكامن الذي سينمو مع تكرار المواقف ومرور الأيام.
والعكس صحيح قد يتقي الزوج ربه فيخسر موقفا أو يخسر أي خسارة في دنياه .. وقد يعترف بخطئه مثلا أمام زوجته وهو كاره .. لكنه في الوقت نفسه قد أضاء في قلب زوجته شعاع أمان وغرس غرس اطمئنان سيجنى ثماره بعد مرور الأيام .. فقد وصلت للزوجة رسالة أن رفيق العمر لن يظلمها ولا يعتدي على حقوقها وليس عليها أن تعانى الحياة معه على حذر من ظلمه.

مواسم رعاية الغرس
وتبقى بعد ذلك مواسم متعاقبة على زرع الأمان ربيع وصيف وخريف وشتاء وكلها تساعد في قوة غرس الأمان واشتداد عوده ووفرة ثمراته.
أما الربيع فهو فترات الصفاء والقرب وهذه سنقضيها نحن الزوجين في ود وحب وصفاء وتعبير حار عن مشاعرنا يشبع حاجتنا كبشر للحب.
إن الله تعالى يحب من المؤمن أن يعبر لأخيه عن حبه له في الله.. لذا كان من السنة أن يخبره بقوله: "إني أحبك في الله" وأن يتجاوب أخوه مع هذا التعبير الجميل.. فما بالك إذا كان هذا المحبوب هو الزوج؟
وإذا كان هذا التعبير الجميل الرقيق بين رجل ورجل فماذا يكون المناسب للمرأة برقتها؟
وما بالك إذا كان هذا التعبير يقوى رابطة الزواج التي يحب الله لها أن تقوى إن أحدنا قد يظن أن ما يبديه من تعبير عن الحب كاف في طريقته وأسلوبه وكمه ولا يدرك أن التقدير في ذلك للطرف الآخر.
فإذا كانت تكفيني كلمة "أحبك " مرة فلأنظر حبيبي لعله لا يكفيه إلا عشرة.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبر بالتقبيل في اليوم كم مرة؟
إن الزوجة الحيية الودود التي رغب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لا تقنع من مشاعر زوجها إلا بأنها في نظره أجمل الجميلات.. وهى وحدها في الكون كله التي تلفت نظره وتملأ عينه.. وأنه مستقر النفس معها والعين سعيد معها أتم السعادة.. وهذه الرسالة لاتصل إلى شغاف قلبها من مرة ولا عشرة.
وأظن أن الزوج إذا سأل زوجه :هل تحبني؟..فهذا يعنى أن صاحبه قد اضطره للسؤال وأنه لم يسمع كلمة: "أحبك" بدرجة كافية.

المناخ الصحي للطاعة الجماعية
إن حالة الصفاء والحب والقرب هذه لن نضيعها بل ستصبح مناخا شائعا في البيت فتساعدنا على الاجتماع على بعض العبادات التي نؤديها معا مثل صلاة الجماعة وصيام النوافل وقراءة القرآن والدعاء والصدقة التي نتفق عليها وكذلك صلة الأرحام وغيرها.
إن وظيفة هذا الاجتماع على الطاعة هو وصل الأرواح وتعشيق القلوب بهذا العشق المباح وإمتاع النفوس باللقيا والوصال والإيناس والارتياح.
لكنه وصل ليس كأي وصل إنه وصل آمن، منزوع الحرمة، خال من الكراهة، مطرود عنه الشياطين مشهود عليه من الملائكة الكرام التي تحضر مجالس الذكر وتحفها بأجنحتها فتتنزل السكينة معها.
لذا فللاجتماع على الطاعة سر في تأليف القلوب وتنزيل السكينة لا ندركه.. كما يساعدنا الصفاء في ربيع غرسنا على القراءة والتعلم .. خصوصا تعلم ما يجب علينا وجوبا عينيا .. وخصوصا في هدى الرسول صلى الله عليه وسلم في الحياة الزوجية.. وسنقف وقفات جميلة عند حبه لزوجاته وعند تفاصيل حياتهم اليومية بما في ذلك حبه صلى الله عليه وسلم لزوجاته وحبهن له و...و.... وما إلى ذلك من تفاصيل تنعش حبنا وتجعل طلب العلم و حياتنا معا متعة وسعادة.
إن مهمة هذا العلم أنه يوحد تصورنا للحياة الزوجية فنحن قد اتفقنا أن ديننا الحنيف هو مصدر تصورنا لحياتنا وكان هذا الاتفاق مجملا فها نحن نتعلم التفاصيل.
وهاهنا أمر هام يجب الانتباه إليه: إن جهل أجيالنا بأحكام الدين يجعل الكثيرين وخصوصا من الفتيات إذا ذكر الدين وعلاقته بالحياة قفز إلى الأذهان التضييق والتقتير والتزمت وسائر الاتهامات التي وجهها الجهلاء والأعداء إلى الإسلام في شخص المتدينين.
فعلى خاطب اليوم زوج الغد أن ينتبه لتأثير حديثه.. ولا يطلق المصطلحات الصماء والعبارات النظرية الجوفاء دون أن يعرف مدى فهم وتصور فتاته لما يقصد.
وعليه أن يستعمل المباح شرعا لتوصيل الفهم السليم توصيلا عمليا يعافيه من رفض خطبته دون حوار أو من الجدل العقيم في الحوار أو من وجود فكرة مسبقة كامنة في عقل المخطوبة كبذرة قلق.
أما الخريف فهو أيام الفراق التي لابد منها ومهمة هذا الخريف أن يساقط الغرور والكبرياء وكل الأوراق الفاسدة فهو يؤكد لكل منا أنه محتاج للآخر لا يستطيع الاستغناء عنه بسهولة كما كان يتصور.. وربما سرعان ما عبر كل منا للآخر عن هذا الشوق والأسى ولوعة الفراق والاحتياج.. وهذه هي فائدة الفراق.. فعلى الزوج بوجه خاص أن يبدأ بالإغداق على زوجته بالتعبير عن الحب والشوق والوجد الذي يزيل أي توجس لدى الحبيب من أن إلفه قد استراح بفراقه واستغنى عنه أو أن رفيقه سيرى في الغربة من يعوضه عنه ويسلو به عن حبه.
وكلما طال هذا الفراق كلما كانت نفوسنا مهيأة لمراجعة النفس وأسلوب المعاملة مع الحبيب على أساس أن المؤمن يحسن الظن بغيره يسيء الظن بنفسه.. وعلى أساس أن المؤمن يطالب نفسه بالإحسان والعطاء فإن لم يكن فعلى أساس العدل والإنصاف ومن هنا تتساقط كل الأساليب الخاطئة وتتهيأ نفوسنا لظهور براعم جديدة من أساليب المعاملة والتطوير لحياتنا الزوجية في كل جوانبها.
أما الشتاء فهو الأزمة التي يحتاج فيها كل منا للدفء العاطفي والمساندة العملية.. كأن تمرض الزوجة أو تمر بأي ظرف تحتاج فيه لوقفة الزوج وهنا يدرك الزوج نوع وكم المشاعر التي تحتاجها الزوجة في محنتها ولا يبخل على زوجته بوقفته وبمشاعره التي يغدق بها عليها .. فقد تتلخص المحنة كلها في شعور الزوجة بأن ظرفها هذا سيؤثر على أنوثتها مثلا أو على دورها في الأسرة وبالتالي سيفكر الزوج في الزواج من غيرها.
وهنا سيظهر معدن الزوج كما سيمر باختبار النذالة ..لا أقصد زواجه من غيرها.. ولكن أقصد استغلال ظرف صاحبه للضغط علي مشاعره من يده المجروحة.
إن التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في رحمته وشفقته بالمسلمين عامة ثم بالمرضى وعيادتهم خاصة ثم بأهل بيته وزوجاته الطاهرات كفيل بأن يغرس في قلب الزوجة أمانا من جهة زوجها قد يكفى كوقاية من المشاكل طوال الحياة الزوجية ويكفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجلس بجوار المريض ويضع يده على مكان الألم ثم يدعو ويرقى المريض وهذا القدر وحده في نفس المحب كثير لأن فيه من القرب ما يطلبه ومن الإشفاق والعطف ما يحتاجه ومن الاهتمام ما قد تمرض الزوجة خصيصا من أجله وقد تشفى بمجرد شعورها به "أي والله".
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عائشة رضي الله عنها تقول وارأساه يقول هو صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه.. وهذه الكلمة الموجزة كانت عائشة رضي الله عنا تقدرها وتدرك مغزاها حسب ما تعودت من زوجها صلى الله عليه وسلم.. فتتأثر بها عاطفيا أيما تأثر.. فهو الذي كان يدللها في ظروفها العادية: "يا عائش".
فعلينا أن نستفيد من الظروف التي يمر بها كل منا في تعميق الحب والتعبير عن المشاعر.. وإثبات الاستعداد للتضحية من أجل الحبيب وإظهار الوفاء، وكذا الاعتراف بالفضل والشكر على المعروف ورد الإحسان .. ولا تنسوا الفضل بينكم.
وإذا كان أحد الأئمة رحمه الله قال في مرض صاحبه:
مرض الحبيب فعدته فمرضت إشفاقا عليه
جاء الحبيب يزورني فبرئت من نظري إليه

فماذا يقول زوج لزوجه؟
إن مهمة هذا الشتاء بتعبيرات الحب وبتضحيات الزوج أن يخرج الزوجان أكثر قربا والتصاقا فتصبح الحياة أكثر دفئا بعد أن اكتشف كل منهما في الآخر جوانب جديدة من شخصيته تؤكد استعداده للتضحية كما تؤكد رجولة الرجل وشهامته وكبره بحيث يمثل للزوجة والدها بجوار كونه صديقها وزوجها وأخاها الأكبر.. وكذا بعد أن ذاق قلب الزوجة من زوجها الإحسان والعطف وللإحسان على القلوب تأثير السحر فقد قالوا: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم.
ولما كان صيف الغرس هاما وسيطول منا فمضطرون لإفراده بمقال قادم بإذن الله فسنحتاج إلى مناقشة تعاملنا مع المشاكل الزوجية والضوابط الحاكمة لها ودورها في غرس الأمان فا اللهم انفعنا بما نقول وأصلح لنا ذريتنا آمين وفى انتظار إثراء الموضوع بالتعليق وإلى لقاء.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 365 مشاهدة
نشرت فى 27 مارس 2014 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

291,355