- الزعيم الذي توجته الشدائد.. والنائب الذي اختاره الشعب عبر المواقف.. وقائد الشعب في المهالك والمخاطر.. وأميره الذي يطيعه بكل حب وثقة.. فهو شخصية نادرة من الذين يدخرهم لطف الله الرءوف الرحيم لخلقه.. وتخبئهم حكمة العليم الخبير للأزمات والملمات التي ليس لها إلا مثلهم.. فهو منة الله على مصر.. وهو رحمة الله بأهلها.
- ولا غرابة لذلك.. فله إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نسب أصيل  وهو العلم الذي جعل له نصيبا في ميراثه من الرحمة بالخلق.. والقوة في اليقين.. والعزة في النفس.. والاعتزاز بالدين.
- وكانت هذه السجايا في نفسه هي زواجره ومنغصات شهواته  فلم تترك له إلى الركون سبيلا.. بل مازالت تنهضه وتقيمه حتى قدمته إلى قيادة المواقف الصعبة.. وتحمل المسؤولية التي تخلى عنها أهلها في أحلك الأوقات.
ظروف الميلاد و النشأة
- ولد عمر مكرم: بأسيوط عاصمة صعيد مصر..  في أسرة شريفة تنتمي إلى البيت النبوي الكريم.. وكانت للأشراف مكانة عالية  بين الناس عامة.. وعند الأمراء والحكام خاصة.. وكانت الأسر العريقة من الأشراف تحافظ على مكانتها حيث كانت العادة أن يختار من بينهم نقيب الأشراف.. الذي كان ذا كلمة مسموعة وشفاعة مقبولة عند الحكام لقضاء حوائج الناس وتخفيف الظلم عنهم
- وقد تعلم: عمر مكرم ما أمكنه بأسيوط وحفظ القرآن.. ثم سافر إلى القاهرة ليستكمل تعليمه بالأزهر.. وكانت الأسر الكبيرة تحرص على شرف تخريج أبنائها من الأزهر.. لما كان له ولخريجيه الأفذاذ من مكانة بين الخاصة.. وجلال في عيون عامة الشعب المصري فدرس التفسير والفقه والحديث وعلوم اللغة والنحو  ، واقتنى مكتبة كبيرة لا يزال جزء منها محفوظا في دار الكتب المصرية وقد وجدت بها كتب في التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والسياسة وغيرها من الكتب الإنسانية.
- لم يشتغل بالتدريس في الأزهر كما كانت عادة علماء  العصر، ولم يتفرغ لتأليف ولا لتصنيف ، إذ كان استعداده العقلي والنفسي يميل به نحو الاهتمام بأمور المجتمع المصري أو بالأحرى شغله العمل بما علم عن كثرة التفريع في العلم.
المناخ السياسي الذي نشأ فيه
- كانت مصر ولاية عثمانية تعانى آثار ضعف الخلافة من  كثرة الاضطرابات في الداخل وتكرار الاعتداءات من الخارج غير أن سمة عظيمة كانت متوارثة من بقايا العصور الحية للمسلمين وهى توقير العلماء ومعاملتهم كما يجب ليس من العامة وحدهم بل من الأمراء والأعيان.. كان العلماء هم مفزع عامة الناس يفزعون إليهم في الملمات كما سنرى.
- أما موقف الأمراء من العلماء: فيقول الأستاذ محمد فريد أبو حديد: (إن أمراء مصر في أثناء القرن الثامن عشر  كانوا يحاولون بكل ما استطاعوا أن يكون حكمهم مرضيا عنه عند الشعب وكانوا يعملون على تقريب أهل العلم والأعيان والأدباء.. ويشجعونهم على غشيان مجالسهم فكانت مجالس على بك الكبير.. ومحمد بك أبو الدهب  تمتاز بوقار من يؤمها من العلماء الأجلاء والزهاد والفضلاء.. وكان هذا التقريب عاملا ً من أقوى العوامل على إيجاد روح من الود طالما ساعد على تبادل العطف بين الحاكم والمحكوم..  وهو عطف كان يؤدى بغير شك إلى إصلاح الحكم).
الأحداث التي نشأ في ظلها
- ولد حوالي سنة 1168هـ 1755م وهو العام الذي مات فيه رضوان بك من أمراء المماليك فاشتدت المنافسات الطاحنة بين الأمراء على الحكم.. وتهيأت الفرصة لعلى بك الكبير لتولى الأمور فأعلن  الاستقلال عن الخلافة.. ثم توسع في بسط سلطانه فقاتل في الشام لضمها إليه متحديا بذلك شعور المسلمين.
- عام 1187هـ 1773م قتل على بك الكبير على يد أكبر رجاله محمد بك أبو الدهب الذي استكمل الإغارة على الشام..  وانتزع الجزء الجنوبي.
- عام 1189هـ   1775م مات محمد بك أبو الدهب وهو في عنفوان شبابه  وكان عمر مكرم في حوالي  العشرين  من عمره.. وترك موت أبو الدهب الساحة خالية لصدام طاحن بين المماليك انتهى بتولي مراد وإبراهيم واقتسامهما السلطة.
- وفى عهدهما تغير الحال فقد أحاطت بهما هالة من غير العلماء بل من ذوى المصالح والأغراض الخاصة فأسرفا في فرض الضرائب على المصريين.. واشتدت على الناس المظالم.  
- وكما يقول الأستاذ أبو حديد: (ورأى أهل مصر أنهم حيال نوع جديد من الحكم لا تنفع فيه النصيحة ولا تستقيم معه الأمور على الشفاعة وأن لا ملجأ لهم من طغيان إبراهيم ومراد إلا بأن يلجئوا إلى القوة والثورة.. ولهذا كانت الثورات تتوالى عند كل مناسبة فما تكاد ثورة تهدأ في القاهرة حتى تشب أختها في رشيد وضج الناس ضجيجا  لم يسبق لهم مثله حتى بلغت أصواتهم دار الخلافة في قسطنطينية.. فتحرك السلطان إلى إرسال حملة تأديبية لمقاتلة مراد وإبراهيم فهربا إلى الصعيد).
بداية تدخل عمر مكرم في الحياة العامة
- بعد أن هرب مراد وإبراهيم إلى الصعيد وعادت الحملة التأديبية  لم يستطع الأمراء بعدهما المحافظة على استقرار الأمور.. وهنا انتهز مراد وإبراهيم الفرصة فأرادا أن يرسلا رسولا ليتم التصالح ويعودا إلى المشاركة في الحكم في القاهرة.
- وكان الشيخ عمر مكرم على صلة بهما هناك فتوسط لهما وكان ذلك عام 1205هـ 1791م.. حيث سافر الشيخ إلى القاهرة من أجل ذلك وبقى فيها يومين يتصل بكثير من المشايخ والأمراء.. وكان مسعاه في هذا السبيل من أكبر ما سهل رجوع الحكم إلى إبراهيم ومراد.
- وهنا سيبدو التساؤل: كيف  يتوسط الشيخ لهما وهما على هذه الدرجة من الظلم والتعسف والاستبداد؟
- ولكن الأستاذ محمد فريد أبو حديد يلتمس للشيخ هنا عذرا ً.. وهو أن الحكم الذي قام بعدهما لم يكن أحسن حالا على حد وصفه.
- ويقول: بل لعله كان أسوأ وأشد قسوة.
- في عام 1208هـ 1793توفى نقيب الأشراف الشيخ محمد البكري فأسند مراد وإبراهيم منصب نقيب الأشراف إلى السيد عمر مكرم أفندي.. أو الشيخ عمر مكرم كما كانت ألقابه.. فهو شخصية تجمع بين العلم الأزهري ما يجعل لقب الشيخ جديراً به.. كما أنه على ثقافة وتفتح يجعل البعض يناديه بعمر  أفندي ولكنه كان نقيبا يلقب بالسيد على عادة زمانه.
- وكان هذا المنصب جديرا بالمنافسة عليه.. فقد كانت تتنافس عليه أكبر أسر الأشراف.. مثل أسرة السادات وأسرة البكري غير أنه كان منصبا مكلفا ً.. فهو الذي يتحمل كثيرا من الحمالات المادية والمعنوية من أجل الصلح والإصلاح كشيمة أهل الفضل.  
- وكان قدره الذي ضاعف من أعبائه ومسؤولياته أنه أشتهر بين الناس بحسن خلقه وكرم نفسه وعفته عن المال.. فتبوء بذلك من نفوسهم مكانة سامية فقضى حياته بين الاضطرابات والأزمات.. وبين مسؤولية العلماء ومسؤولية نقيب الأشراف.. بل أكثر من ذلك مسؤولية الحكام عندما تخلوا عنها كما سنرى.
النقيب والمماليك
- في أواخر عام 1209 هـ1795م استنجد الشعب المصري بالعلماء من فرض الضرائب وجمعها بالقوة.. فهب شيوخ الأزهر حيث أضربوا عن إلقاء الدروس.. ودعوا أصحاب الحوانيت إلى إغلاقها فأغلقوها.. ثم ساروا في موكب ناقم وساخط إلى بيت الشيخ السادات واجتمعوا به.
- وكان فيهم السيد عمر مكرم  ليلتقوا على كلمة واحدة في شأن هذين الحاكمين.. فأرسل إليهم إبراهيم بك مندوبا ليترضاهم ويرجعهم عن موقفهم فلما أبوا حاورهم.. ثم تطور الأمر إلى تجمهر الناس حول القادة واتجهوا إلى الأزهر واعتصموا به حتى نزل إليهم مراد وإبراهيم.. ثم نزل الوالي إلى قصر إبراهيم واجتمع بهم هناك وطال الأخذ والرد حتى انعقد الصلح.. وكتب القاضي وثيقة بما اتفقوا عليه من بنود.. ورجع القادة بين الهتاف والتهليل والتكبير.
- ومنذ ذلك الحين ارتفع اسم عمر مكرم بين عامة الشعب.
النقيب والحملة الفرنسية
- في محرم سنة 1213 هـ يوليه سنه 1789 فزع الشعب المصري بنبأ نزول القوات الفرنسية على شاطئ الإسكندرية لاحتلال البلاد.
- وجاءت الرسل تترى تنبئ  الأميرين والناس بقوة  العد.. وأنه قد استطاع أن يستولى على الإسكندرية بدون مقاومة تذكر.
- موقف الأمراء الرسميين:-
- بعد تريث تحرك الأمراء فألفوا جيشين وقف أحدهما في شرق النيل بقيادة إبراهيم.. وذهب الآخر بقياده مراد إلى الغرب ليلاقى العدو قبل أن يبلغ القاهرة.. فلم تمض إلا ساعات قليلة حتى انهزم مراد ناجيا بنفسه إلى الجنوب قاصدا الجيزة.. ولما أيقن الشعب أن مراد قد فشل وهرب نظر إلى إبراهيم فوجده قد أسرع بالهرب قبل أن يفكر في الثبات.
- موقف عمر مكرم:-
- أسرع عمر مكرم  فصعد القلعة ونشر علما كان العامة يسمونه "البيرق النبوي".. ونزل من القلعة إلى بولاق والناس حوله وهم يهللون ويكبرون ومعهم الطبول والزمور.. فخرج كل من في القاهرة وضواحيها من الرجال والشبان.. وجاد كل منهم بما عنده من مال قليل دراهم اقتطعها الفقراء من أقواتهم وأقوات عيالهم ا ليشتروا سلاحا وخياما وذخيرة.
- وتوجهت هذه الألوف فوقفت بجوار جيش إبراهيم وهى لا تجد لها دورا ً تقوم به في القتال ولا مجالا للتضحية.. فهم ما أعدوا لمثل هذا اليوم بل لم يكن عليهم إلا تحمل العناء والفقر وتجرع الصبر.
- فكانت النتيجة ما سبق وكأن القدر قد حشدهم ليروا بأعينهم هزيمة الأمراء وفرارهم.. ورأى الشعب نفسه أعزل لا دراية  ولا قدرة.. وقد كان خياله يصور له قادة ينضوي تحت لوائهم في الجهاد فلم يجد له قادة يوجهونه.
- وكان السيد عمر بينهم واحدا منهم قد امتلأ قلبه حماسة ولكن لا علم له بالحرب ولا قدرة له عليها فعم الاضطراب والفزع وامتلأت القلوب كلها روعا وهلعا.. فعلت بينهم صيحة "إلى النجاة ! إلى الفرار !" وليت الفرار كان منجيا بل طارت  أحلامهم وخرجوا من القاهرة زرافات ووحدانا يطلبون المنجى ولا يعرفون أين هو.. وهاموا على وجوههم حتى تخطفهم لصوص البدو وقطاع الطريق.
زعماء الشعب هم المعنيون
- كانت الأحداث الماضية قد قسمت العلماء إلى قسمين عمر مكرم ومن معه من الذين تحركوا وشاركوا في الجهاد.. وهؤلاء أزمعوا الخروج من القاهرة.. وأنف عمر مكرم البقاء في مصر وهى على هذا الحال فتبع جيش إبراهيم نحو الشرق وخرجوا من القاهرة.
- أما القسم الثاني: فهم الذين اعتزلوا وأقاموا في بيوتهم وهم من مشايخ العلم الذين لاحظ لهم في  أمور النضال ولا بحكم سنهم وميولهم.. ممن يتحملون جهد القتال فهؤلاء اجتمعوا ومن بقى من زعماء الشعب في القاهرة ليروا رأيا في هذا الحال المنخذل.
- واستقر رأى شيوخ القاهرة على أن يعلنوا للقائد الفرنسي التسليم فأرسلوا من قبلهم رسولين ليحملا له ذلك الرأي فأجاب على رسالتهم جوابا حسنا وطلب أليهم أن يقابلوه.
- وبعد قليل أعلن قائد الفرنسيين الأمان عقب اتفاقه مع زعماء الشعب فعاد كثير من الزعماء الذين كانوا قد أزمعوا الهجرة مع السيد عمر.. وكان منهم الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي كبير العلماء وكثيرون سواهما من جلة المشايخ وكبار الأعيان.. وعاد معهم كثير ممن هاجر من أهل القاهرة وعامة شعبها.
- وأما السيد عمر فقد صحب جيش إبراهيم في تقهقره إلى الشرق.. ثم إلى المنصورة.. ثم إلى سيناء.. وبقى في العريش شهورا.. ثم التقى الجيش الفرنسي مع الجيش التركي وجيش إبراهيم الذي  انهزم فلجأ إلى يافا.
عودة الشيخ إلى مصر
- ولما فتح بونابرت يافا.. كان حريصا على إكرام  المصريين هناك  وأرسلهم إلى مصر.. وكان من بينهم  السيد عمر مكرم وعدد من كبار الموظفين والأعيان.
- عاد السيد عمر ورأى أن الجيش الفرنسي قد بسط سلطانه على جميع الأرض حواضرها وأريافها.. واتخذ له فيها أعوانا يعينونه على حكمها بالقسر والقهر.. فلم يرض بأن يشترك في أمر الحكم أي اشتراك إذ أن اشتراكه في ذلك الحكم فيه معنى إقراره.

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 883 مشاهدة
نشرت فى 22 يناير 2014 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

294,033