فِي نَفْسِ كُلٍ مِنَّا وَأعماقه حُلم أو أحلام جَميلة
وأسْعَد وَقت يقضيه الإنسان هو الذي يعيش في أحضان حلمه السعيد يستمتع بمراجعة تفاصيله وما تم منها في عالم الخيال ومالم يتم ليستكمل بناء الحلم بكل سهولة وهو على بساط الأماني
يظل هذا الحلم يرفرف ويتجول في النفس وفي خبايا الوجدان حبيسًا راجياً خروجه يوماً ما إلى عالم الواقع ليراه مُجَسَّداً أمامه يهنأ به ويسعد سعادة من عاش لامن حلم
بعض أحلامنا تصبح حاديا لنا تظل تغرد وتتراءى لنا جميلة بأجنحتها المحلقة لاتفارق خيالنا فتشد عزيمتنا فنجد ونجتهد الى أن نجد لها مخرجاً وفرجاً فنراها حُرة قد أمكن تنفيذها كما عشناها حلما أو أكثر أو أقل مما رأيناها هناك في الماضي والخيال
ولايُرَىَ الإنسان في حالةٍ أسعد من تحقق الحلم الذي عاشه وعانقه وصاحبه وواعده من قبل
لكن
بعض أحلامنا تظل حبيسةً لاتجد لها مَنفذاً
كلما خَلونا بأنفسنا أو خلا أحدنا الى خليله وصَفيه وأفضى اليه تراءت له أحلامه المنكسرة وكثيراً ما لوحت له متحسرة فيتحسر وتنكسر نفسه
يمضي قطار العمر
وكلما مضى نحو النضج والرشد اكتشفنا أن بعض أحلامنا كانت ساذجة وعلينا أن نطلق سراحها إلى الفضاء لتذهب برضا منا وسعادةٍ أدراج الرياح فنرسلها إلى العدم
لقد اكتشفنا أنها لم تكن حية أصلا لكن براءتنا هي التي كانت تتخيل فيها الحياة والإمكان
أو كانت أحلاما مُعلَّقة على البقاء في الحياة بلا مفارقة ويشترط لتحقيقها الخلود بلا انتقال
أو كانت أحلاما أقل بكثير مما وهبنا الله من طاقات وقدرات قادرة على تحقيق أحلام يمتد العيش في أكنافها وآثارها وظلالها الى مابعد هذه الحياة القصيرة
ان أحلامنا التي تحوم حول الدنيا وحدها تبخس صاحبها نفسه وتفرض عليه أن يتمتع متاعا قليلا قصيراً قصر العمر زائلاً زوال الحياة التي لانرى الا بعد رحيل العمر أنها كانت سرابا أو (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ)
أو كما قال الشاعر وستعرف بعد رحيل العمر ...بأنك كنتَ تطارد طيف دخان
وتميل شمس الحياة الى الغروب
وحين يخلو أحدنا بنفسه أو بصفيه الذي يحدثه كما يحدث نفسه يتنهد بحسرة : لقد تمنينا أموراً في الحياة منها ما أنعم الله علينا وتحقق ومنها مالايبدو أنه سيكون قبل مفارقة الحياة التي قد آذنت بالرحيل
كلما كانت أحلامنا الحبيسة مشروعة كانت حسرتنا على دوام حبسها في أمنياتنا أشد
خصوصا إذا كانت تتعلق بإصلاح الحياة بإقامتها على الدين أو بترك بصمة في الحياة أو صدقة جارية يجري نفعها عليه في قبره
بعضنا يعالج ألام الأحلام الحبيسة ومواجعها بالرضا بقضاء الله وقدره وأن قضاء الله واختياره خير من اختيارنا لأنفسنا ويذكر نفسه بقول الله تعالى(وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ويستدل من الواقع بأن بعض أحلامه لو كانت تحققت كما أراد لكان اليوم حاله في أسوأ مايكون ويحمد الله الذي لم يستجب لتضرعاته
لكن رغم علاج الرضا يبدو للقلب عندما يصفو أن الحلم قد نام أو نعس فقط ولكنه لم يخرج من القلب ولا من قفص الصدر فهو بين الحين والحين يُطِل مستحياً وإن كان في ثوب جديد
عندما تقترب شمس الحياة من ملامسة الغرب نتذكر أن الشمس لاتذهب بالغروب إلى العدم
بل لتشرق في أرض جديدة
وأن شمس حياتنا كلما مالت للغروب في هذه الدنيا الفانية اقتربت من الإشراق في عالم الخلود
عندئذ نطلق سراح الأحلام الحبيسة
لا نرسلها إلى العدم كما أرسلنا أحلامنا الساذجة
ولا الى الرضا بالقضاء كأحلامنا النائمة الخاملة
ولكن إلى هناك
الى عالم الحقيقة والخلود واللامستحيل
أحلامنا التي كانت تبدو لنا مستحيلة الحياة كشجرة يابسة في الدنيا يكشف لنا صفاء اليقين أنها يمكن أن تورق من جديد
لكن في حياة ليست كهذه الحياة
لكن هناك
حيث لامستحيل
(حيث يقَالَ لَهُ تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى
فَيُقَالُ لَهُ هَلْ تَمَنَّيْت؟ ،
فَيَقُولُ نَعَمْ .
فَيَقُولُ فَإِنَّ لَك مَا تَمَنَّيْت وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) حديث رَوَاهُ مُسْلِمٌ وهذا أَدْنَى مَقْعَدِ في الجنة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم
كما قَال :
: سأَل مُوسَى ﷺ ربَّهُ، ما أَدْنَى أَهْلِ الْجنَّةِ مَنْزلَةً؟
قَالَ: هُو رَجُلٌ يجِيءُ بعْدَ مَا أُدْخِل أَهْلُ الْجنَّةِ الْجَنَّةَ،
فَيُقَالُ لَهُ: ادْخِلِ الْجنَّة.
فَيقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ وقَدْ نَزَل النَّاسُ منَازِلَهُمْ، وأَخَذُوا أَخَذاتِهِم؟
فَيُقَالُ لهُ: أَتَرضي أَنْ يكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيا؟ فَيقُولُ: رضِيتُ ربِّ،
فَيقُولُ: لَكَ ذَلِكَ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ،
فَيقُولُ في الْخَامِسَةِ: رضِيتُ ربِّ،
فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وعشَرةُ أَمْثَالِهِ، ولَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، ولَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رضِيتُ ربِّ،
قَالَ: ربِّ فَأَعْلاَهُمْ منْزِلَةً؟
قالَ: أُولَئِك الَّذِينَ أَردْتُ، غَرسْتُ كَرامتَهُمْ بِيدِي وخَتَمْتُ علَيْهَا، فَلَمْ تَر عيْنُ، ولَمْ تَسْمعْ أُذُنٌ، ولَمْ يخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بشَرٍ رواهُ مُسْلم
إن الذي تحوم أحلامه وغايته وأهدافه ورجاؤه حول حياة الخلد لاينكسر ولاينبغي له أن ينكسر
عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال:
لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا
قَالَ: أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟
قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا.
فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ.
قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ ) .
قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون) .
رواه الترمذي وحسنه ، وابن ماجه
أحلامنا المستحيلة ليست مستحيلة بشرط أن نرويها بالإخلاص ونتعهدها بالمتابعة
ساحة النقاش