سبحان الله كأنها كانت على يقين بأن هذه آخر زيارة
كل إخوتي قالوا انها استعدت للزيارة الاستعداد الأخير حتى أنها أصرت أن يكتبوا لها اسم أخي ورقم تليفونه على حقائبها وقد تعرفوا عليها من هذا الاسم فعلا بعد الوفاة في الطريق
عندما ودعَتهم كان الوداع حارا .. كررت عناقهم أكثر من مرة ووصتهم توصيات المودِّع الذي لن يعود
لم أتعود أن أطلب من أمي زيارتي في المعتقل فأنا أعرف المشقة التي تعانيها في السفر من الوادي الجديد في أعماق الصحراء الغربية الى القاهرة
إلا أنني أثناء كتابة رسالة اليها جاءني خاطر لأول مرة: إنك لو أرسلت اليها سيعتبر هذا تقديرا لها واشعارها بعدم استغنائك عنها بزوجتك.
كتبت لها :عندما تنتهي الشتاء أريد أن أراك .
ولكني فوجئت أنها جاءت في ذروة الشتاء .
وسبحان الله .
جاءني خاطر: انك لو طلبتها وحدها بدون زوجتك سيكون ذلك أكثر تقديرا فعندي كلام كثير أريد أن أقولهالها وحدها فطلبت منها أن تأتي وحدها ليس معها أحد ولاحتى زوجتي فتمنعت وقالت: "رجلي على رجل زوجتك" لكني أعرف مراعاتها لشعور الناس فألححت عليها ورتبت لها صحبتها التي ستأتي معها من أمهات الاخوة ويسر الله ذلك تيسيرا عجيبا .
قبل أن تقوم من الزيارة سألتني عن أكلة يمكن أن تطبخها لي وتأتي بها الزيارة القادمة. وعلى غير العادة وافقت على طلبها فلم يسبق لي أن طلبت منها أكله بعينها واذا سألتني كنت أقول لها : كل الأكلات عندي سواء . لكن هذه المرة قلت في نفسي: أتركها تجهز لك أكلة تحبها حتى تسعد هي بذلك فقلت لها إنني لم آكل من يد أحد طعاما مثل طعامها خصوصا الأكلة الفلانية.
قبل مجيئها جهزت لها حديثا طويلا جدا استعرضت فيه حياتنا كلها لأركز على صبرها معنا وتعبها
سبحان الله ... ألهمني الله تعالى أن الانسان في أواخر عمره يجب أن يرضى عن الله في مسيرة حياته وحكمة الله تعالى منها
قلت لها: ان كل تعبك معنا محفوظ لك عند الله وصبرك الفلاني وعملك الفلاني اذا نسيناه نحن فالله تعالى لا ينساه. وأننا مهما فعلنا معها لايمكن أن نوفيها شكرها.
كانت تتلقى هذا الكلام باستغراب شديد حتى انها قالت: الأم لاتتنتظر أن يشكرها أحد هي تفعل ذلك لأنها أم تحب أبناءها
كان هذه الحديث ممتعا لها للغاية مرضيا لها وأنا أذكرها بأمور نسيتها هي وتتعجب من تذكري لها .
كانت هذه أجمل زيارة زرتها فقد أفرغت ما كنت تمنيت كثيرا أن أبلغه لأمي وحين تعرضت للموت شغلني أني سأموت ولم أعبر لها عن مشاعري تجاهها فالأم هي أول من يذكرها الانسان في المحنة وأول من يراجع معاملته لها ومهما كان بره بها ألا أنه يشعر بالتقصير في حقها
كنت أتمنى أن استمتع بأسترضائها ... أطمئن أنها رضيت عني من قلبها رغم أني أعلم أنها الحمد لله عني راضية لكن حديث رضاها وتأكيدها عليه محبب للنفس كحديث الحب بين الحبيبين خصوصا عندما ينتهي بدعواتها الجميلة وقد شعرت أكثر من مرة أن دعواتها هي التي نجاني الله بها من كربات أو خفف عني بلاء فقد كان قلبها يحدثها أذا وقعت في مصيبة وكانت أحيانا تطلب من اخوتي الاتصال بي لأنها غير مطمئنة فاذا أخبروني سألتهم عن يوم هذا الاحساس قأجده بالفعل يوم وقوع مشكلة أو كرب
ومن أجمل صفات أمي التي انتبهت اليها في هذه الزيارة أنني كلما سألتها عن أحد كيف حال فلان؟
تقول: غلبان عياله كثير
. وكيف حال خالتي فلانة تقول: غلبانة زوجها مريض
وهكذا فتذكرت هذه المرة أن هذه اجابتها دائما فكل الناس يستحقون التعاطف معهم وكلهم لديهم من الظروف ما يحتاجون معه الى الدعاء .
عندما أهديتها هدية طلبت مثلها لخالي وواحدة لخالتك فلانة تكتب عليها كذا وأخرى لخالتك فلانة فوعدتها وجهزتها لها وكان ذلك من أسباب سعادتها
عندما نبهوا علينا بانتهاء الزيارة كنا نحن الاثنين في غاية السعادة ونظرت هي الى الزائرين فتبسمت وقالت : أنظر كل الناس مبسوطة الحمد لله كنا أين وأصبحنا اليوم أين ؟
يا بني كل هؤلاء كانوا اذا انتهت الزيارة وخرجنا يصرخون ويبكون على حال أولادهم ,, الحمد لله.
قال لي اخوتي انها اتصلت بهم بعد الزيارة كانت في غاية السعادة وقالت لي زوجتي أنها يوم ودعتها عند عودتها للوادي الجديد كان وجهها ينطق بالجمال حتى أن زوجتي قالت لابنتي انظري وجه جدتك ظاهر عليه ماشاء الله الفرح والسعادة
بعد أن فارقتني في هذه الزيارة الأخيرة جاءني الخبر في الصباح فاذا بصورتنا ونحن في آخر زيارة فأقول الحمد لله أقصد الحمد لله أني رأيتها قبل وفاتها فأتذكر تدبير الله لآخر زيارة فأقول سبحان الله ودموعي تسيل وحدها وأنا أردد الحمد لله سبحان الله رحمها الله رحمة واسعة
ساحة النقاش