كاتب هذه السطور من الذين حرمتهم الحرب لهو الطفولة ، وأهدت إليهم هموم الشيوخ ، وأحزان اليتامى ما زلت أذكر تحذيرنا – ونحن أطفال من الفرح بأى لعبة فإنها ملغومة بلغم من صنع اليهود .. لأجل ذلك لم تكن هذه الأيام لتمر على كل عام دون أن أقف وقفة لأتذكر .
وفى مثل هذه الأيام من رمضان عام 1973 كانت المعارك دائرة على أرض مصر وكنا معها بكل كياننا وما زلت أذكر أول خبر كأنه اليوم يومها .. انسابت الفرحة إلى قلوبنا من قبل أن تصل الأخبار بتفاصيل المعركة ومن قبل أن يتأكد لنا الانتصار لقد كنا فى حاجة إلى مجرد ـ أن ندرك أننا قادرون على دخول معركة ولذا كانت الفرحة لمجرد دخول جيشنا فى حرب تحرك ساكن اليأس. كنا نحن الصبيان منهزمين فى أعماقنا حتى النخاع شأن أبائنا ولم تبق لنا الهزيمة أى ثقة أو قناعة بقدرة جيشنا على رد أى عدوان ظالم .
تهلهلت نفسيتنا تهلهل جيشنا المصرى على أرض سيناء سنة 67 وحين أذكر ذلك أذكر أنى رأيت وأنا فى السابعة من عمرى جنودا من جيشنا مهلهلين ماديا ومعنويا .
وسمعت خالتى وهى تحكى كيف خرجت كغيرها من النساء لتدعو إلى بيتها شبابا كأبنائها مثل الورد ولكن أذبلتهم الهزيمة فهربوا من الموت وهاموا على وجوههم فى شوارع السويس يتساقطون فى الطرقات أقول كانت نفوسنا مهلهلة خصوصا بعد أن أتخذ الطيران الاسرائيلى مجالنا الجوى ملعبا يمرح فيه فيسدد الضربات يمينا فى أبى زعبل أو يساراً فى نجع حمادى أو فى الوسط فى منقباد.
ـ لم تترك الهزيمة بقعة فى مصر الا سكنتها كما يسكن الاكتئاب قلب الحزين فبعد ان هاجرنا الى أقصى الجنوب الغربى لم ترحمنا جارتنا الجديدة هناك من دموعها ليل نهار على ابنها الذى أخذوه فى الجهادية على حد تعبيرها وكنا نستنتج أن هناك عمليات عسكرية أو غارات إسرائيلية جديدة من بكائها كنا إذا سمعنا من الراديو [ طول ما أملى معايا معايا وفى إيدينا سلاح.. ها أفضل أجاهد وامشى وأمشى من كفاح لكفاح.. حى حى على الفلاح حى على الفلاح]
نقول زمانها خالتتا نفيسة قابعة فى ركنها تبكى وبيدها الراديو تتبع الأخبار فنهرع إليها فنجدها كذلك ولقد كانت أحزاننا أنا وأخوتى تتجدد كلما جلست أمنا تبكى وتذكر أمها وأخوالي لا نعرف أخبارهم ولا أين هاجروا ثم جاءت تلك الأيام فى العاشر من رمضان عام 1393 هجرية يومها ذهبنا إلى المدرسة نتدفق حماساً فوجدنها مغلقة بسبب الطوارئ انتظرنا أمام الباب حتى تجمعنا فتجمع الحماس ثم انطلق فى مظاهرة نؤيد الجيش والقيادة وننشر الحماس والثقة والبهجة فى الشوارع يومها امتلأت المساجد وتزاحم الناس عليها لدوافع مختلفة تجذبهم نحو بيوت الله قصدوها حمداً لله على النصر ، وحبا فى الالتقاء ببعضهم وتشوقا لسماع الأخبار فقد كان الشيخ محمود يقرأ علينا الجديد من الأخبار ويطلعنا على سير المعارك فى مصر ثم يقول : أما أخواننا فى سوريا فالأخبار عندهم كذا وكذا ثم يعلق تعليقاته الإيمانية ويوجه التوجيهات الرسمية للدولة ويدعو المواطنين للالتزام بدورهم فى المعركة .
لقد أنشأت الانتصارات حالة إيمانية بديعة جددت كل الجوانب النفسية للشعب المصرى الذى أنشد (بسم الله الله أكبر بسم الله ... بسم الله أذن وكبر بسم الله ] .. [ صبرنا وعبرنا وربك نصرنا ]
وفى مثل هذه الأيام دارت المعارك هناك على أرض سيناء فدارت فى نفس كل مصرى أمور كثيرة دار الحديث فى كل بيت وشارع ومسجد وما التقى اثنان إلا ودار الحديث بينهما عن الانتصارات والوقائع والنوادر فى الشجاعة والتضحية وكان الحديث ممتعا عن الإيمان وظهوره فى المعركة وقد أجمع الشعب المصرى على أن هذا النصر عند الله لم يتنزل الا بسبب الحالة الإيمانية التى كان عليها الجيش المصرى خصوصا وقد جاء فى رمضان العظيم والجنود صائمون والمساجد تجأر إلى الله لهم بالدعاء والقرآن والصلاة
• دار الحديث عن الانتصارات وعن الإيمان ليغسل آثار الهزيمة .
• دار الحديث عن هزيمة اليهود فدارت هزيمة الإحباط وعادت الثقة من جديد وما زلت أذكر أننا حين عدنا إلى المدرسة والمعارك لا تزال دائرة وقف زميلنا فى الإعدادية وطالب الأستاذ بفتح باب التطوع للقتال واستغل مدرس اللغة العربية الفرصة ليحدثنا عن دورنا الحقيقى فى هذا الصراع
• لقد كان الانتصار كفيلا أن يغير من أخلاق الشعب المصرى او بمعنى أصح أن يعيده إلى طبيعته وتوازنه الذى أفقدته إياه الهزيمة فقد كف والدى عن الغضب لأتفه الأسباب وعن توجيه الانتقادات والشتائم للحكومة وقد عودتنا الانتصارات على أن نصلى العشاء ثم نجلس أمام المسجد لنستمع إلى حكايات من هنا وهناك من أخبار المعارك يشارك فيها الكبار والصغار ويلتفون حول الراديو فى بهجة واهتمام وما زالت أذكر أن عمى قد أنقطع عن أولاده ولم يرجع من السويس فاشتد قلقنا عليه ؛وفى يوم سعيد عاد عمى فتوافد الناس عليه يهنئون ويسمعون الأخبار وجلس عمى يحكى ويكرر
• لقد دخل اليهود السويس وعسكروا فى الأماكن الفلانية وقد حوصرنا وأوشك المحافظ أن يسلم المدينة ولكن الشيخ حافظ سلامه رفض وأذاع من مسجد الشهداء أن السويس لن تستسلم وان الجهاد سينطلق من المسجد والتفت الشباب حول الشيخ وملا الناس المسجد وقال عمى : إن اليهود قد قطعوا المياه عن السويس كلها ففوجئ الناس بعين جاريه تنبع بالماء بجوار مسجد الشهداء
• لقد كانت تلك الأيام مفعمة بلذة ونشوة لم تتكرر للشعب المصرى ان هذا التاريخ يجب ان لا ينسى فقد كان السلف يعلمون أبنائهم المغازى كما يعلمونهم السورة من القران ثم ان هذه الأيام من ايام الله وقد قال الله تعالى { وذكرهم بأيام الله }
انتصارات رمضان حجة لنا أم علينا ؟
بالإجماع أكد الذين عاصروا انتصارات رمضان عام 1393 هـ أنها لم تكن الا رحمة من الله تعالى وفضلا منه على مصر والأمة الإسلامية ولقد تنزل هذا النصر العظيم على مصر بسبب توجهها إلى الله وموقفها الجديد من الدين ( وما النصر ألا من عند الله العزيز الحكيم )
• لقد كانت حالة الجيش المصرى الايمانية وموقفه من الدين بعد الهزيمة وإبان انتصارات رمضان تختلف كثيراً عنها قبل هزيمة سنة 67 ونكستها
• فى الستينات وقبل الهزيمة كانت وجهة مصر هى الاتحاد السوفيتى الشيوعى تعتمد عليه فى تسليحها وتستلهم منه أفكارها ومبادئها ولذا كانت الاشتراكية هى منهج الحياه يومها
• وكان الجيش المصرى ينخر فيه السوس ... سوس الخبراء الروس الملحدين الذين جاءوا ليلقنون المصريين خبرتهم العسكرية أو معها بالطبع عقيدتهم القتالية وغير القتالية !!
• وما زلت أذكر حكاية المصرى الذى أراد أن يؤذن فأخذوه إلى الحبس فالدين فى الجامع ولا دين فى الجيش
• أما فى السبعينيات فقد طهرت مصر جيشها من الخبراء الروس الملحدين ثم أفرجت عن الشباب المسلم من المعتقلات ثم استقبل الجيش علماء الدين ووجد أبناء القوات المسلحة المصرية ان الدين هو ملاذهم بعد انكسار الهزيمة
• وبنيت المساجد فى معسكرات الجيش لأول مرة وقرئ القرآن بصوت كبار القراء وعقدت الندوات والمحاضرات واعتمدت مصر الصلة بالله تعالى والعقيدة الدينية أساساً للتوجيه المعنوى كما يؤكد ذلك بالتفاصيل الممتعة الشيخ حافظ سلامه فى كتابه الكبير ( وذكرهم بأيام الله.. ملحمة السويس )
ومن هنا تنزلت انتصارات رمضان
• إن انتصارات رمضان لم تكن فقط انتصارات عسكرية على اليهود بل صارت روحا دبت بها الحياة فى كل الكيان المصرى وودعت بها مصر مرحلة الانهزام النفسى الأسود .
• إن توجه الشعب المصرى وجيشه إلى الله بعد الهزيمة كان نعمة من الله منحه سبحانه بسببها النصر العظيم
• ومع ذلك فإن ترتيب النصر كنتيجة لهذا التوجه صار حجة على مصر بل على الأمة الإسلامية.. لقد صارت انتصارات رمضان 1393 حجة وبرهان ساطعا لا شك فيه على أن الأمة حين تتوجه إلى ربها توجها جماعيا تدعو إليه القيادة وتوجه إليه الشعوب
• وحين تطهر صفوفها من الملاحدة والمفسدين
• وحين تتصالح مع الدعاة وتفرج عن الشباب المعتقل المظلوم وتفتح الأبواب أمام العلماء لينشروا نور الإيمان والهداية الربانية وتلتف حول الدين وتقدسه وترفع أهله وترفع راية الصلاح وتنهى عن الفحشاء والمنكر
• حين يكون ذلك هو حال الأمة فلابد ان يغير الله أحوالها ويرفعها من ذل الهزيمة إلى عز الانتصار فالعجب الآن مذهل ومحير لأولى الألباب ...!! ماذا تريد الأمة الإسلامية من برهان عملى قريب أقوى من انتصارات رمضان ؟ وماذا تريد من دليل عملى حاضر أقوى من واقعها المرير الذى أصابها الله به جزاءً على بعدها عن الدين واهانة أهله ؟ وما الذى يمنع أمتنا من إعلان الحرب على الفسق والفجور والرذيلة والضلال حربا جماعية وما الذى يمنع توجهها الى ربها ؟
هل يخشى قادتها من التفاف الناس حول الدين ؟ فلا والله ما كان من نتائج لتوجه القيادة حول الدين الا التفاف الناس حول القيادة كما رأينا وإلا حبها وثقتها وفداءها
ولا والله ما تسرب الإحباط الى القلوب وما دب فيها الغيظ والحنق والكراهية الا بعد الانصراف عن الدين وتقليص دور العلماء والتوجس من المتدينين وتكريم العابثين
• ومع ذلك لا تزال انتصارات رمضان حجة لامتنا كفيلة بان ترفعها الى السماء إن هى أخذت بهذا البرهان الذى نطقت به انتصارات رمضان وهو ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )...( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم .....) .
ساحة النقاش