علي الديناري

موقع دعوي يشمل نسمات من القرأن وشروح بعض الأحاديث ومدرسة الدعوةأسرة المسلمة والفكر والقضايا المعاصرة


والفرق بين العفو والذلِّ: أنَّ العفوَ إسقاطُ حقِّك جُودًا وكرمًا وإحسانًا، مع قُدرتك على الانتقام، فتؤثر التركَ رغبةً في الإحسان ومكارم الأخلاق. بخلاف الذُّلِّ، فإن صاحبَه يترك الانتقامَ عجزًا وخوفًا ومهانةَ نفس، فهذا مذموم غير محمود. ولعل المنتقمَ بالحق أحسنُ حالًا منه.
 
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: ٣٩]، فمدَحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم وتقاضيهم منها ذلك، حتى إذا قدروا على من بَغَى عليهم، وتمكَّنوا من استيفاء ما لهم عليه، ندَبهم إلى الخلُق الشريف من العفو والصَّفح، فقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: ٤٠]. فذكر المقامات الثلاثة: العدلوأباحه (١)، والفضل وندبَ إليه، والظلمَ وحرَّمه.
 
فإن قيل: فكيف مدَحهم على الانتصار والعفو، وهما متنافيان؟
قيل: لم يمدَحْهم على الاستيفاء والانتقام، وإنما مدحهم على الانتصار، وهو القدرة والقوة على استيفاء حقهم، فهذا هو الانتصار، فلما قدروا ندَبهم إلى العفو.
قال بعض السلف في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يُستذَلُّوا، فإذا قدروا عفوا (٢). فمدَحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذلٍّ وعجز ومهانة. وهذا هو الكمالُ الذي مدَح سبحانه به نفسَه في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: ١٤٩]، وقوله: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (٣) [الممتحنة: ٧].
وفي أثر معروف: «حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، لك الحمدُ على حِلْمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد (٤) على عفوك بعد قدرتك» (٥).
ولهذا قال المسيح صلوات الله وسلامه عليه: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَوَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨]. أي: إن غفرتَ لهم غفرتَ عن عزَّةٍ [١٦٠ أ] وهي كمالُ القدرة، وحكمةٍ وهي كمالُ العلم. فغفرتَ بعد أن علمتَ ما عملوا وأحاطت بهم قدرتك، إذ المخلوق قد يغفر (١) لعجزِه عن الانتقام، وجهلهِ بحقيقة ما صدَر من المسيء، والعفوُ من المخلوق ظاهرُه ضيمٌ وذلٌّ، وباطنه عزٌّ ومهابة. والانتقامُ ظاهرُه عزٌّ، وباطنُه ذلٌّ، فما زاد الله عبدًا (٢) بعفوٍ إلا عزًّا، ولا انتقم أحد لنفسه إلا ذلَّ، ولو لم يكن إلا بفوات عزِّ العفو. ولهذا ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط (٣).
وتأمل قوله سبحانه: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: ٣٩] كيف يُفهم منه أنَّ فيهم من القوة ما يكونون هم بها المنتصرين لأنفسهم، لا أن غيرهم هو الذي ينصرهم؟ ولما كان الانتصار لا تقف النفوس فيه على حدِّ العدل غالبًا بل لابد من المجاوزة، شرَع فيه سبحانه المماثلة والمساواة، وحرَّم الزيادة، وندَب إلى العفو. والمقصودُ أن العفو من أخلاق النفس المطمئنة، والذلَّ من أخلاق الأمَّارة.
ونكتة المسألة (٤) أن الانتقامَ شيء، والانتصارَ شيء. فالانتصار أن ينتصر لحقِّ الله ومن أجله. ولا يقوَى على ذلك إلا مَن تخلَّص من ذلِّ حظّه ورِقِّ هواه، فإنه حينئذٍ ينال حظًّا من العزِّ الذي قَسَم الله للمؤمنين، فإذا بُغيَ عليهانتصر من الباغي، من أجل عزِّ الله الذي أعزَّه به، غيرةً على ذلك العزِّ أن يُستضامَ ويُقهَر، وحميَّةً للعبد المنسوب إلى العزيز الحميد أن يُستذَلَّ، فهو يقول للباغي عليه: أنا مملوكُ مَن لا يُذِلُّ مملوكَه، ولا يحبُّ أن يُذِلَّه أحد.
وإن كانت نفسُه الأمَّارةُ قائمةً على أصولها، لم تُجْتَثَّ بعدُ، طلبتْ الانتقامَ (١) والانتصارَ لحظّها وظَفَرها بالباغي، تشفِّيًا فيه وإذلالًا له. وأمَّا النفس المطمئنة التي خرجت من ذُلِّ حظِّها ورِقِّ هواها إلى عزِّ توحيدها وإنابتها إلى ربها، فإذا نالَها البغيُ قامت بالانتصار حميّةً ونصرةً للعزِّ الذي [١٦٠ ب] أعزَّها الله به ونالته منه، وهو في الحقيقة حميَّةٌ لربِّها ومولاها.
وقد ضُربَ لذلك مثلٌ بعبدَين من عبيد الغَلَّة حرَّاثَين، ضرب أحدُهما صاحبَه، فعفا المضروب عن الضَّارب، نُصحًا منه لسيِّده، وشفقةً على الضَّارب أن يعاقبه السيِّد، فلم يجشِّم سيّدَه كُلفةَ (٢) عقوبتِه وإفسادِه بالضرب، فشكرَ العافي على عفوه، ووقع منه بموقع.
وعبدٌ آخرُ قد أقامه بين يديه، وجمَّلَه، وألبسه ثيابًا يقف بها بين يديه. فعمَد بعضُ سُوَّاس الدوابِّ وأضرابهم، ولطَّخ تلك الثيابَ بالعَذِرة، أو مزَّقها، فلو عفا عمَّن فعل به ذلك لم يوافق عفوُه رأيَ سيده ولا محبتَه، وكانالانتصارُ أحبَّ إليه وأوفق لمرضاته؛ كأنه يقول: إنما فُعِل هذا بك جراءةً عليَّ واستخفافًا بسلطاني. فإذا مكَّنه من عقوبته، فأذلَّه وقهَره، ولم يبق إلا أن يبطش به، فذلَّ وانكسر قلبه؛ فإنَّ سيِّده يحبُّ منه أن لا يعاقبه لحظِّه، وأن يأخذ منه حقَّ السيِّد، فيكون انتصارُه حينئذٍ لمحضِ حق سيِّدِه لا لنفسه.
كما رويَ عن علي رضي الله عنه أنه مرَّ برجل، فاستغاث به، وقال: هذا منعني حقِّي، ولم يعطني إياه. فقال: أعطِه حقَّه. فلما جاوزهما لجَّ الظالم، ولطم صاحب الحقِّ، فاستغاث بعليٍّ، فرجع، وقال: أتاك الغوث. فقال له: استعِدْ لطمتَك (١)، فقال: قد عفوتُ يا أمير المؤمنين. فضربَه عليٌّ تسع دُرَر، وقال: قد عفا عنك مَن لطمتَه، وهذا حقُّ السلطان. فعاقبه عليٌّ لما اجترأ على سلطان الله، ولم يدعه (٢).
ويشبه هذا قصة الرجل الذي جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقاال: احمِلْني، فوالله لأنا أفرَسُ منك ومن أبيك! وعنده المغيرة بن شعبة، فحسَر عن ذراعه، وصكَّ بها أنفَ الرجل، فسال الدم. فجاء قومه إلى أبي بكر فقالوا: أقِدْنا من المغيرة. فقال: أنا أقيدكم من وَزَعة الله (٣)؟ لا أقيدكم منه (٤). فرأى أبو بكر أن ذلك انتصارٌ [١٦١ أ] من المغيرة وحميةٌ لله وللعزِّ الذي أعَزَّ به خليفةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليتمكن بذلك العزِّ من حسن خلافته
وإقامة دينه، فترك قودَه لاجترائه على عزِّ الله وسلطانه الذي أعزَّ به رسولَه ودينَه وخليفتَه.
فهذا لون، والضربُ حميَّةً للنفس الأمَّارة لون. أ.هـ نصا من كتاب الروح لابن القيم

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 154 مشاهدة
نشرت فى 25 ديسمبر 2023 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

317,605