الكتاب محاولة شارك في بلورتها ووضع فصولها التسعة اثنان من أساتذة تخصص المستقبليات في الولايات المتحدة، ركزا جهدهما في عملية استشراف منهجية للإطلالة على أثر البحوث العلمية والتطورات التكنولوجية المذهلة في بعض إنجازاتها، على تطور الحياة وصورة المستقبل في عالمنا خلال فترة قريبة مقبلة. ويقارن الكتاب مع فصوله الأولى بين الأساليب التقليدية التي ظل الإنسان الأميركي يتبعها منذ القرن 19 في الزراعة وبين ما حدث من نقلة مذهلة في بعض الأحيان، تحولت بالإنسان الأميركي مع مطلع القرن العشرين من المحراث البدائي إلى عصر الآلة.
وهي نقلة متواصلة وجديرة بأن تنقل الناس في الفترات القريبة إلى عصر سيادة الحاسوب الشخصي الالكتروني، الذي سيغير جذريا فكرة ونظام الدوام التقليدي في مكاتب ومواقع ودوائر بعينها، إلى حيث يداوم الموظف في أي موقع يختاره مستعينا في ذلك بإمكانات الحاسوب.
ويتوقع الكتاب أيضا تطور سبل التواصل الأكثر كفاءة والأرخص من حيث التكاليف مع رحاب الفضاء الخارجي، فيما يتوقع أيضا تطور أساليب الحصول على الموارد الحيوية من الطاقة، وخاصة ما يهم الأميركيين بالذات من تطوير بدائل لطاقة النفط والغاز الأحفوري كي تحل محلها الطاقة النووية وطاقة الشمس والرياح وما إليها. على أن الكتاب ينبه في هذا كله إلى أنه لا يجزم بما عساه يحدث في المستقبل، بقدر ما أنه يتبع ما يوصف في العلم الحديث بأنه «قانون الاحتمالات».
«نعم، هيا استعد لعصر الرقمية، والذي يصبح فيه كل شيء رقميا». تلك هي الدعوة أو هي النبوءة التي تدور أو تكاد تدور عليها محاور هذا الكتاب.
إن كتابنا يقرأ في سفر الآتي، كيف لا وقد وضع فصوله وطرح مقولاته اثنان من اختصاصي استشراف المستقبل في الولايات المتحدة.
وبديهي أن المستقبل أصبح علما له قواعده وأصوله بحيث يختلف جذريا عن اتجاهين تقليديين في التوقع أو التنبؤ بما عساه يقع من أحداث وتطورات: (1) الاتجاه الأول: قديم، بل هو عتيق بقدر ما أنه بديهي ومتجذر عبر تاريخ الإنسان، إنه اتجاه التنجيم الذي صاحب البشر منذ نشأتهم الأولى فوق سطح الأرض.
فالإنسان مخلوق قوي بكل ما سخره له خالقه عز وجل من آلاء الكون وإمكانات البسيطة، لكن هذا الإنسان نفسه مخلوق ضعيف لأنه يذكر الماضي ويفهمه وقد يفيد منه، بقدر ما عاش فيه من تجارب سارة أو مريرة، وهو أيضا يعيش الحاضر ويتفاعل معه سلبا وإيجابا، لكنه لا يستطيع أن يمضي ولو خطوة واحدة أبعد من ذلك، لا يمكن أن يتعرف على القادم رغم خوفه أو توجسه المستمر مما قد يختفي بين طيات هذا القادم من تحولات وتطورات.
من هنا ظلت محاولة التنبؤ بالمستقبل أمرا بالغ الإثارة والجاذبية للبشر، يستوي في ذلك بين فتاة بسيطة في قرية نائية أو نجع شبه مجهول تريد أن تعرف شيئا عن "عريس المستقبل"، بقدر ما يستوي فيه أيضا ذلك الرهط من السلاطين والملوك والخلفاء الذين كان المنجمّ أو قارئ الطوالع عضوا شبه دائم من أفراد الحاشية في قصورهم أو من موظفي البلاط، وحتى لا نتهم بأننا نتحامل على من كانوا يثقون في حكاية قراءة الطوالع من أهل الأزمنة الغابرة الذين سادوا ثم تعرضوا للانقراض.
علينا أن نستعيد حكاية لم يمض عليها سوى بضع سنين وهي حكاية قارئ البخت، أو فلنقل اختصاصي الطوالع ومدير عجلة الحظ، الذي كانت له وظيفة شبه رسمية بمقر الرئاسة في شارع بنسلفانيا في واشنطن، حيث تحكم أقوى دولة في العالم، وكان هذا المنجمّ - الرئاسي إن شئت - يقرأ الطوالع وربما يستشير النجوم والأبراج لصالح السيدة "نانسي" خلال رئاسة زوجها "رونالد ريجان" في البيت الأميركي الأبيض على امتداد حقبة الثمانينات من القرن العشرين.
(2) الاتجاه الثاني: وهو ما نتعامل معه في هذه السطور، هو ذلك الذي يمثله في زماننا الراهن قراءة المستقبل أو محاولة قراءته من خلال تنبؤات منهجية وإسقاطات علمية تتوسل بأساليب الاحتمالات الرياضية المحسوبة بدقة وخاصة باستخدام الحاسوب الالكتروني الذي لا يداهن ولا يجامل، فضلا عن عملية رصد دؤوبة لما يتم إنجازه في مراكز البحوث ومؤسسات الفكر والأكاديميات التي تحولت بداهة من دنيا التنجيم والأبراج إلى علم يحمل صفة الاستشراف، بمعنى محاولة التصور بأساليب الفكر والعلم لمستقبل عالم باتت تنظمه انجازات التكنولوجيا التي تتطور بحياة الناس يوما بعد يوم، وفي قفزات وطفرات لا تنكر في بعض الأحيان.
حول مستقبل التكنولوجيا
من هنا كان منطقيا أن يصدّر المؤلفان كتابهما الذي نعرض له في هذه السطور بعبارة حاسمة تقول: "هذا كتاب عن مستقبل التكنولوجيا".
بعدئذ يوضح المؤلفان أن الحيز الزمني الذي يعملان في دراسة وتحليل تطوراته، لا يعدو كونه 90 سنة هي التسعين عاما الأخيرة من حياة البشر، وبالذات من حياة أميركا التي يتخذانها نموذجا لما يذهبان إليه بحكم معرفتهما الوثيقة والعميقة بما ظل يدور على أرضها من تطورات ومتغيرات.
يقول الكتاب مع فصوله الأولى: في غضون التسعين سنة الأخيرة انكمشت مساحة العالم بفضل التطور المذهل في دنيا النقل والحركة والاتصال، فيما توسعت تجربة الإنسان، ربما بفضل هذا التطور المذهل أيضا الذي تحقق بداهة على ضوء إنجازات العلم ونهضة التكنولوجيا.
نموذج أميركي آخر
لقد بدأت الحياة في أميركا الجديدة منذ أواخر القرن الثامن عشر، وقد سادتها الزراعة باستخدام حيوان الجّر والحرث، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) فاستخلصت فلاحي أميركا من مزارعهم الصغيرة ومحاريثهم شبه البدائية، ووضعتهم بصورة عشوائية عند خطوط التجميع وأمام آلاف الإنتاج ومع ماكينات الطباعة "تايبرايتر، في مصانع السيارات وعوالم جنرال الكتريك ومكاتب العصر الحديث.
هنا يستدرك كتابنا فيضيف قائلا: "لكننا اليوم بسبيل مفارقة هذه المكاتب ومفارقة تلك الآلات الطابعة التي انتمت إلى أزمنة مضت، وأصبحت رغم قربها النسبي أقرب إلى عصور ما قبل التاريخ، فكثير منا في طريقه إلى أن يعمل من البيت، ويتحول في الدوام الوظيفي إلى مواقع يختارها في صحبة كائن يلبي كل احتياجاته واحتياجات الرؤساء والمشرفين وأصحاب الأعمال، كائن اسمه.. الحاسوب.
زيادة متوسط الأعمار
ومثال آخر عن تطور صحة البشر، فكلما أصبح البلد متقدما زاد ابتعاده عن صنف الأقطار النامية أو البلدان المتحولة، وارتفع متوسط عمر السكان.
ومرة أخرى فالمثل من أميركا على نحو ما يسوقه مؤلفا الكتاب. ففي عام 1920 كان بالإمكان أن يتوقع الناس أن يمتد الأجل في المتوسط طبعا بالطفل الأميركاني إلى سن 54 عاما. لكن زاد متوسط هذا العمر المتوقع (والأعمار بداهة بيد الله) لكن هناك نتائج التطورات الجذرية الثورية إن شئت في مجالات التشخيص والعلاج واكتشافات الدواء وتطوير الآلات والأجهزة الطبية، هذا فضلا عن تطور أساليب التغذية السليمة أو شبه السليمة، كل هذا رفع متوسط الأعمار المتوقعة مع عقد التسعينات المنصرم إلى 72 سنة للرجال، وإلى 79 سنة للنساء، الأميركيات بطبيعة الحال.
في السياق نفسه، يحرص الكتاب على التأكيد على أن مثل هذه الإنجازات لم تكن لتقتصر فقط على أميركا أو مثيلاتها من الدول المتقدمة، فقد نال الدول والمجتمعات النامية قدر ولو محدود من مثل هذه الإنجازات.
مرة أخرى يقول المؤلفان مارفن سترون وأوين ديفيز": شهدت سنوات الأربعينات والخمسينات إمكانية التوصل إلى المضادات الحيوية التي أدت إلى القضاء على معظم الأمراض الوبيلة المعدية من أصقاع العالم المتقدم، لكن هذه الإنجازات توسعت إلى أن اختفى مرض الجدري مثلا من الوجود، أو لا يكاد يوجد إلا في برادات المختبر العلمي.
لكن مازال المستقبل، كما يعترف المؤلفان ينطوي على تحديات لا سبيل إلى إنكارها: فما زالت أوبئة الكوليرا والدفتيريا، بل ومرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) تعصف بحياة الآلاف في القارة السمراء بالذات. وربما يكمن الأمل كما تتمنى الفصول الثمانية التي يتألف منها الكتاب - في إنجاز محوري تلخصه كلمة واحدة أصبحت بالطبع على كل لسان وهي: التكنولوجيا. والحق أن هذه الكلمة بكل معانيها ودلالاتها ومنجزاتها هي المحور الأساسي للكتاب.
لكن التكنولوجيا كما يعترف الكتاب بصدق وموضوعية في تصورنا لا يمكن أن يستفيد منها سوى المجتمع الذي تتوافر لديه الاستعدادات والامكانات وارتفاع مستوى الوعي التعليمي والعلمي.
لهذا تؤكد مقولات الكتاب على أن ما يذهب إليه المؤلفان في استشراف ما سيكون عليه مستقبل عالمنا مع سنوات وشيكة مقبلة، هو أمر يدخل منطقيا، وفي تواضع علمي، في باب الاحتمالات.
مجرد احتمال
وهذا بالطبع هو التحفظ أو الاحتراز العلمي الذي تبلور من خلاله عنصر "الاحتمال" في عنوان الكتاب، على الرغم من أنه يتناول بداهة أمر التحولات التي يمكن أن تطرأ على حياة الناس بفضل منجزات العلم وتطورات التكنولوجيا.
ما هي إذن وباختصار بالغ التكثيف العناصر الأهم التي يستشرف الكتاب وقوعها وتفعيلها في حياة الناس، في ظل هذه المتغيرات المحتمل وقوعها في هذا المضمار؟
يمكن تلخيص هذه المتغيرات الأساسية من واقع فصول الكتاب على النحو التالي: انتشار الحواسيب الشخصية وازدياد تطورها بصورة مطردة بحيث إنها أصبحت قادرة على أن تحل محل الآلات الفائقة القدرات (سوبر آلات كما يصفها كتابنا) تلك التي درجت على استخدامها أجيال الماضي، وخاصة لأن الحواسيب المتطورة كفيلة بأن تصل إلى مستويات مذهلة أحيانا في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي مازال مقصورا حتى في أيامنا الراهنة على دوائر البحث ومختبرات التجريب.
قيام شبكة هائلة من التواصل والترابط الالكترونية بين الشركات العملاقة في أميركا وغيرها وبين مثيلاتها ونظيراتها في طول العالم وعرضه، حيث يتوقع أن تقدم هذه الشبكة خدماتها في عالم المعلوماتية ودنيا المعرفة إلى كل سكان المعمورة بدءاً من كما يوضح الكتاب محتويات أو مقتنيات مكتبة الكونغرس في أميركا، وانتهاء بشرائط الفيديو غير اللائقة في كانتون بالصين (!) كما يقول المؤلفان.
تأليف: مارفن سترون وأوين ديفيز
عدد الصفحات: 298 صفحة
الناشر: دار سان مارتن، نيويورك
عرض ومناقشة: محمد الخولي
نشرت فى 4 سبتمبر 2013
بواسطة daifarrahman
عدد زيارات الموقع
38,304