7 mins · Tamer Goueli with Solafa Goueli
أبي الحبيب, اليوم وقفت لأتلقي فيك العزاء, أو تدري كم مره تلفت حولي أبحث عنك. في مثل هذه المناسبات كنت دائما في قلب الحدث و الجميع يتواري في وجودك. بحضورك الطاغي و ابتسامتك الاسره و هدوءك الشديد. لا تدري كم الذكريات و الصور التي تداعت في ذهني و أنا أحاول أن أبدو متماسكا و لا أدري ما أتمتم به للرد علي المعزيين.
أتذكر أيام الجمعه في طفولتي و أنا أفتح الباب قبل الصلاة لأجد دائما واحدا من تلاميذك حاملا كتبه و أوراقه, فأذهب لأقول لك "يييه تاني مش هانخرج" فتبتسم و تقول "لا هانخرج", ثم يأتي معنا الي النادي لتجلس معه بالساعات تراجع أبحاثه. كم تكرر هذا المشهد, حتي أصبح تلاميذك جزء أصيلا من العائله. أتعلم, أنهم كانوا الاكثر اخلاصا في حزنهم و قد أصبحوا اليوم شيوخا.
دمياط, منتصف الثماينأت, حين كنت محافظا و أنا مازلت طالب بالكليه. أذكر يوما نزلت لأشتري شئ و تهت, أوقفني ضابط و طلب رخصي و بدأ يحرر مخالفه و عندما حاولت أن أفهم, قال اني سرت عكس الاتجاه. لم تفلح كل محاولاتي لاقناعه بأني مش من هنا و أني تهت. عدت الي المنزل و عندما رجعت من مكتبك ناديتني "أنت بتبلطج بسلامتك هنا", أجبت مندهشا "مش فاهم" فأخرجت رخصتي و قلت "أنت بتمشي عكس الطريق سيادتك؟" و بعد شرح كيف تهت و اني لم أري علامة ممنوع الدخول قلت لي جملتك المحفوره في ذهني "بص يا ابني, مصر كلها مسموح لها تغلط الا احنا, سامع؟"
منتصف التسعينات, أيام الوزاره و أزمة السكر الطاحنه و حربك مع حيتان التجار و رجال الأعمال الذين سحبوا كل المخزون من الأسواق حتي يحرجوك. أذهب اليك و أنا مشفق عليك و أسألك "و بعدين؟ الناس دول جامدين قوي؟" فتجيب بابتسامتك الواثقه "ايه المشكله؟ متقلقش هاسففهلهم كله, هاياكلوه." و قد كان.
ليلة خروجك من الوزاره عام 99. أعود من العياده و أمر عليك في منزلك و أنا مشفق من أن أري حزنك فتقابلني بنفس الابتسامه و تسألني عن يومي. و عندما أسألك عن شعورك تقول لي "الحمد لله أنا كده حر, هم و انزاح" و عندما أسألك عن خطوتك التاليه تقول مندهشا " يا ابني هو أنا معنديش صنعه, هأرجع الجامعه طبعا." أعلم ان مع كل مناصبك و ألقابك يبقي أستاذ الجامعه هو الاثير لديك.
في اليوم التالي, و في منتصف النهار أعاود المرور عليك و أفاجأ عند دخولي البيت بكم باقات الزهور التي لم نجد لها مكانا حتي بدأنا في وضعها علي السلم. و أضحك و أسألك "ايه جنينة الأورمان دي؟", فتضحك و ترد "شفت بقي يا عم تامر, بذمتك أزعل؟" و تزداد شعبيتك و أنت خارج من الوزاره. أشهد يا أبي اني لم أسمع منك كلمة ذم واحده في كل من لم يعرف قدرك و حاربك و غار من نجاحك و حب الناس لك, و أنك كنت دائما مستغنيا عن كل شئ يتقاتل الناس عليه.
ذكريات تمر و أنا في موقفي في العزاء و قد أتي كثير من الأحباب يذكرون لي ما أعرفه عنك. أتذكر بداية مرضك و أنت تقاوم و تصر علي النزول في الثمانية عشر يوما الشهيره من يناير 2011 لتتمشي حول البيت كما كانت عادتك, فأذهب معك أنا و أولادي. و كالعاده يسلم عليك كل من يراك, و لكن يومها أذكر ما قاله أحدهم "طبعا أحمد جويلي الشريف يمشي في الشارع, النهارده الفسده كلهم بيهربوا".
ثم يأخذك منا المرض رويدا رويدا و تختفي و أنت في وسطنا. و خلال كل سنوات الألم و أهوال المرض و ذاكرتك التي خانتك تدريجيا حتي تركتك تماما في النهايه, لم تختفي أبدا الابتسامه في وجه الجميع. لا أذكر الا تلك الابتسامه, ااه دائما تلك الابتسامه.
و يأتي المشهد الاخير, لم يؤثر في مشهد جنازتك التي مشي بها الالاف من البسطاء الذين أحبوك و أحببتهم, قدر ما أثر في دعاء سيده عجوز, صاحت عندما مر نعشك أمامها " مع السلامه يا حبيبي, يا بتاع الغلابه, يالي رفعت راس أهلك و بلدك. الليله فرحك, قبرك نور الليله يا حبيبي." عندما سمعتها يا أبي تأكدت انك بخير.
يذهب الناس و يتركون خلفهم مالا و عقارا و لكنك كعهدك دائما كريم فتركت لي الأغلي: هذه السيره العطره. الي اللقاء يا أبي في مكان أفضل ان شاء الله. ربنا يغفر لك و يرحمك.
ساحة النقاش