تراوح تأثير السلطة على الشعر والشعراء والكتّاب، في العصر المملوكي، ما بين الهبات والصدقات التي كانت تمنح لسائر القطاعات ومنها قطاع الشعراء... والرعاية المباشرة من توظيف، ومصاحبة، إلى مطارحة الشعر، واقتراح الموضوعات، وما إلى ذلك.. وهو ما تعالجه العناوين الآتية:

 

أولاً- علاقة السلطة بالشعر:

 

أردنا بذلك، نظرة السلطان إلى جمهرة الشعراء، وكيفية تعامله معهم، مما أدى إلى نمطية معينة من الكتابة الشعرية، هي وليدة مواقف وأحاسيس معظمها إلى جانب السلطة.

 

1-فضل الملوك والأمراء:

 

من الأمثلة الدالة على ذلك، حكاية الشاعر المصري، جمال الدين ابن نباتة المتوفى سنة 768هـ مع الملكين الأيوبيين المؤيد أبي الفداء وولده الأفضل حيث بلغت منزلته لديهما ولاسيما المؤيد، درجة لم يرق إليها شاعر آخر، باستثناء قلة، بينهم أبو الطيب المتنبي مع الأمير سيف الدولة الحمداني، وصفي الدين الحلِّي مع ملوك بني أرتق والملك المؤيد نفسه.

لقد قدم الملك المؤيد (وهو أحد الأمراء الأيوبيين الذين أكرمهم الملك الناصر محمد بن قلاوون فأقطعه ولاية حماة، وجعله ملكاً عليها لما تمتع به المؤيد من قدرات ومناقب علمية وأدبية وخلقية رفيعة، وقد توفي المؤيد سنة 732هـ/1331م) قدم للشاعر ابن نباتة من النعم والمراتب والهبات، الشيء الكثير، عبَّر عنها الشاعر وصورها في شعره بأمانة تكاد تكون حرفية، وهو ما عرف لدى الشاعر "بالمؤيديات". فقد كفاه المؤيد ذل السؤال وابتذال الشعر فأجازه وأنابه ووظف له راتباً كل عام ثم توطدت العلاقة، فغدا الشاعر صفي المؤيد وصاحبه ورفيقه في مناسبات عدة ولاسيما مجالس الأدب والشعر مع عدد آخر من الشعراء والأدباء، فكان لابد من نظم قصائده "المؤيديات" التي حملت شكر الشاعر وطمأنينة روحه المتعطشة إلى حاكم أديب عالم كأبي الفداء.

 

"صنتني عن أذى الزمان وقد حا *** ول حربي واستكبر استكبارا

 

وانبرى غيثك الهتون بجدوى *** علمتني مدائحـاً لا تبــارى"

 

ثم يقول:

 

"لولاك ما أمست قريحتي *** الكليلة شاعره

 

أنت الذي روَّت غمائمه *** ربايَ العاطره

 

فلقد وجدت ديار ملكك *** بالسعادة عامره

 

قهرت حماةُ لي العِدا *** فحماة عندي القاهرة

 

ولم يكن صفي الدين الحلي (المتوفى سنة 750هـم1349م) أقل تنغماً مع الملك المؤيد، من ابن نباتة، فقد حظي هو الآخر بأياد بيضاء وأيام سنية، سال فيها مداد حبره الشعري، وعبر عن ذلك بقصائد وموشحات حفظها لنا ديوانه المطبوع، من هذه القصائد واحدة بعنوان "الملك الجامع الفضائل" ومطلعها:

 

"راجع الطرف باللقا وسنه *** إن ذاق غمضاً من بعدكم وسِنَه

 

ولو بمدح المؤيد اعتـبروا *** لبُـدلت سيئاتهــم حسنــه

 

الملك الجامع الفضائل والبا *** ذل في الصـالحـات ما خـزنه

 

 

وقال الحلي، من قصيدة يشكر فيها أنعامه وقد حمل إليه تحفاً وكسوات البيت وآلاته ومهماته جميعها:

 

"وقافية شبيه الشمس حسناً *** تردد بين كفي والـيراع

 

لها فضل على غرر القوافي *** كما فضل البقاع على البقاع

 

غدت تثني على علياك لمَّا *** ضمنت لربهـا نُجـح المساعي

 

ولم تكن علاقة شاعرنا بالملك الأفضل، أقل وثوقاً مما كانت عليه مع المؤيد. بل تجاوزت العلاقة كل المقاييس السابقة المألوفة بحيث "تحولت إلى نوع من المخالطة الكفوءة" أو المتكافئة، فيخرجان معاً إلى الصيد، ويلعبان في رماية البندق، فتُحمل الهدايا والتحف من الأفضل إلى الشاعر الذي كان يبعث إلى الملك بغلام تركي يعتذر إليه عن الانقطاع ويبدي شغفاً بلقياه".

أما العلاقة التي تعد نموذجاً للعلاقات المميزة بين الشعراء والحكام، فهي تلك التي كانت للصفي الحلّي مع ملوك بني أرتق الذين حكموا مدينة "ماردين" من قبل سلاطين المغول، ومُنحوا –كملوك بني أيوب في حماة- استقلالاً ذاتياً واسع المدى، دفعت الشاعر الحلي إلى الإقامة الطويلة في بلاطهم، يعيش مع ملوك هذه المدينة أحلى أيام عمره، بمعزل عن الفتن والحروب والمطامع الجشعة. وهكذا استقر الشاعر في كنف بني أرتق استقراراً نادراً، فكان له مرتب يتقاضاه من ملوك بني أرتق، جمع منه ومن الأعطيات والهدايا العديدة، ومن أرباحه التجارية، ثروة كبيرة بلغت حدود المائة ألف دينار فكانت قصائده "الأرتقيات" التي سماها: "درر النحور في مدائح الملك المنصور" نجم الدين أبي الفتح غازي- وهي عبارة عن تسع وعشرين قصيدة، كل واحدة منها على حرف من حروف الهجاء، تبدأ أبيات القصيدة كلها، وتنتهي بحرف واحد، وهكذا القصائد التسع والعشرون .

 

نورد على ذلك بيتين، من قصيدته الهمزية :

 

"أُلهيتُ عن قومي بملكٍ عنده *** تنسى البنون فضائل الآباء

 

إني تركت الناس حين وجدته *** ترك التيمم في وجود المـاء

 

هذا من حيث العطاء المادي والمعنوي، الذي رمزنا إليه بمثالين اثنين، واحد للشاعر ابن نباتة المصري، والثاني لصفي الدين الحلي، والأمثلة على ذلك كثيرة لا مجال لعرضها.

 

رأي /  سكتت الأقلام إلا من خفقات واهنة وأناشيد خافته إذا اتصف الأدب في هذه الفترة بالانحطاط والتراجع 
دون الالتفات إلى دوره الفاعل في الحياة الثقافية والاجتماعية والحضارية .

المصدر: بقلم: غدير الشوق - محررو إلكترونية
caheft

صحيفة الأدب العربى الإلكترونية

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 732 مشاهدة
نشرت فى 9 أغسطس 2011 بواسطة caheft

صحيفة الأدب العربى الإلكترونية

caheft
صحيفة الأدب العربى الإلكترونية - على كنانة أون لاين »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

174,680