ما من آدمي, إلا ويشعر بذاته شعورا لايفارقه, ولايغيب عنه لحظة إلا ليعاوده.. والتفات الآدمي لذاته, الملازم لشعوره بأنه حي, هو التفات للحياة.. فالصلة بين حياة الذات وبين الحياة من حولها, صلة مقدورة.
ويبدو أن المبالغة في النظر إلي الذات, شيء فطري في الآدمي, يرجع إلي أن شعوره ابتداء وانتهاء هو شعوره بذاته ونفسه, وأنه أساس لشعوره بكل ماعداه.. ومعظم الناس يستحسن ذاته وينحاز لها, والافة تأتي من الانحصار فيها وعدم الالتفات إلي غيرها, يبقي التوازن النفسي علي سوائه, ما بقي هذا الاستحسان للنفس في دائرة المعقول, فإن جاوزه إلي الإعجاب والتيه بها إختل هذا التوازن, فإذا فارقه تماما كاد فقدان هذا الإحساس أن يكون لحظة انتحار!
والآدمي يحب الإطراء لأنه يحب ذاته ولايشبع من مرضاة نفسه لأنها وقود حياته.. وليس كل الناس سواء في كبح جماح هذه الرغبة وإبعادها عن الغلو والمبالغة, ومحاولة الالتفات المعقول لمرضاة الآخرين واحترام ما تواضعوا عليه من العدل والبر في وسطهم وظروفهم, أما التجرد التام من مرضاة الذات فأمنية بعيدة المنال!
والحياة يلازمها سعي للآدمي, لا يكف فيه عن محاولة الحصول علي المزيد ومزيد المزيد من الرضا عن النفس, وقد يكون من باب تحسين حاله ومستواه وظروفه, والواقع أن هذا المسعي الدائب قطب تدور حوله الحياة ومعها تاريخ البشر, وكثيرا أو أحيانا ما يصاحب هذا المسعي تضخم للذات يجاوز المعقول أو لا يناسب ملكاتها واستعداداتها, وكثيرا ما ينحصر به انحصارا شديدا في أنانيتها.. وقد يتضخم هذا الشعور ويتفاقم ويتزايد علي نحو سرطاني لايري فيه الآدمي إلا ذاته!
وقد ينجرف هذا التضخم إلي عبادة الذات والإمعان في التشيع لها, وقد يتشدق هؤلاء بالمساواة, ولكنهم في الواقع في هلع من التشابه والتماثل.. سيما فيما ينال أو يؤثر بالنقص علي المكانة العليا التي يعتقدونها لأنفسهم أو يتوهمونها أو ينشدونها.. وأمثال هؤلاء في صراع لايني ولايهدأ للطفو فوق بحر العاديين غير المعروفين من الناس.. يسعي كل منهم ليقرئ الدنيا اسمه ويحفره إن استطاع علي جدار الزمن!
هذه الطبيعة الآدمية كانت وراء سعي الأديان لرفع قيم الإيثار والتكافل والعناية بالغير والوفاء بحقوق الناس.. ويطالع القارئ في القرآن الحكيم قول رب العزة: والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولايجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون( الحشر9) ويطالعون في سيرة وحديث رسول القرآن ـ صلي الله عليه وسلم: إن الأشعريين كانوا إذا أرملوا في غزو( طال بهم) أو قل في أيديهم الطعام, جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية, فهم مني وأنا منهم.. ويقرأون في الحديث: لايؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
وقد تختلط رغبات الأنا في تحقيق ذاتها, أو تلتحق ـ صدقا أو تبريرا ـ بالغايات العامة, وقد يكون وراء هذه النزعة, رغبة غريزية في التصدر والقيادة والأهمية, مقرونة بقدر كثير أو قليل من الحرص الغريزي علي إشباع الرغبة الذاتية في الوجاهة بأقل ما يمكن من الجهد والمشقة والمخاطر, وبأكثر ما يمكن ضمانه من الأمن والدعة والعافية!
ومهما يكن من أمر هذه النزعة التي قد يخالطها تضخم الذات, أن اعتيادها يحيي لدي كثير من الناس إحساس كاذبا بالعلم والخبرة والجدارة والتفوق! ويخلق لديهم شعورا طفليا صبيانيا بأن تغيير أوضاع الحياة وتحويلها وتشكيلها سهل ويسير, وأن كلا منهم بمقدوره أن يكون طبيب الملايين.. الذين يترقبون التشخيص والعلاج والإصلاح علي يديه!
وفكرة المكانة مطلب لدي الناس قديم.. ويكاد يكون في زماننا مطلب الجميع.. يقتتل عليه الكل, ويرهقون أنفسهم وأهلهم وذويهم وأشياعهم من أجله.. ولاتعدو المساواة التي يتشدقون بها أن تكون عندهم مجرد كلمة تقال للزخرفة, سرعان ما ينفلت ملقيها منها ومن تبعاتها, ويسعي للتصدر وطلب الرفعة والمكانة وعلو القدر والمنزلة والفوز بالزعامة والاستئثار بالقيادة.
لذلك شدني ولايزال, في سيرة الصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح, أمين الأمة وأحد العشرة المبشرين بالجنة, مواقف عديدة في سيرته تورات فيها ذاته تواريا تاما, حتي أطلقت عليه في كتاب أكتبه عنه: عبقرية إنكار الذات.
في سقيفة بني ساعدة حيث اجتمعت الأنصار, يوم قبض المصطفي عليه الصلاة والسلام, أتته البيعة بالخلافة شاخصة إليه بغير سعي منه ولاطلب, حين ناداه الفاروق عمر بن الخطاب: امدد يدك أبايعك.. ولكنه لم يمدده يده, وإنما عاتبه مغاضبا كيف يبايعه ويتجاوز أبا بكر الصديق وثاني اثنين؟
فلما لحق بهما أبوبكر, وأراد أن يبايع أحدهما: الفاروق أو أبا عبيدة, أبيا عليه معا, وصمما كلاهما علي مبايعته هو بالخلافة, وتابعتهما الأنصار والمهاجرة. لم يكن هذا الإنكار للذات زهدا في هين من الأمور, وإنما في خلافة المسلمين, بينما طبائع الناس تسعي للصدارة إلي حد الاقتتال.. إستحضر مافعله أبو عبيدة يوم السقيفة, ما صنعه في غزوة ذات السلاسل, يوم أرسله النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي رأس مائتين من كبار الصحابة, مددا إلي عمرو بن العاصر الذي تمسك بأن تكون القيادة له, فغضب كبار الصحابة لمنزلة وسابقة أبي عبيدة, ولكنه أبي الخلافة وتذكر ما وصاه به النبي عليه السلام, فبادر إلي عمرو يقول له: وإنك والله إن عصيتني أطعتك!
وتمر السنون, وفي ميدان معركة اليرموك, يأتي كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلي أبي عبيدة, يخبره بوفاة الصديق رضي الله عنهما, وبالبيعة له, ويأمره بعزل خالد بن الوليد وتولي القيادة مكانه, ولكن أبا عبيدة يطوي الكتاب ولايحدث به أحدا, حتي أتم القائد خالد نصره العظيم.. هنالك استفسره خالد حين علم بالنبأ يرحمك الله أبا عبيدة, ما منعك من أن تخبرني حين جاءك الكتاب؟!
فما زاد عبقري إنكار الذات علي أن قال له: كرهت أن أكسر عليك حربك. ما سلطان الدنيا نريد.. كلنا في الله إخوة.
كان خالد بن الوليد في الأوج السامق يوم عاد الفاروق وعزله عزلا تاما, وأمر باقتسام ماله, فخضع للأمر ينفذه علانية بالمسجد بلال بن رباح ويقتسم حتي نعليه, فلم يخلع القائد العظيم لباس الطاعة, واستمر يؤدي واجبه جنديا عاديا في صفوف المسلمين, ولم يساير من واساه بأنها الفتنة, فقال له في إنكار هائل للذات: أما وابن الخطاب حي فلا!
قبل هؤلاء العظام, كان السائد في الجاهلية منطق عمرو بن كلثوم:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخر له الجبابر ساجدينا
ويشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
فكيف انتقل الإسلام بهؤلاء هذه النقلة الكبيرة, وكيف استطاع أبو عبيدة بن الجراح وأترابه, أن ينكروا ذواتهم هذا الإنكار في باحة الإسلام؟! كيف لم يهمهم أن يقرئوا أسماءهم, أو أن يمنحهم الناس الصيت والمجد؟! كيف ذابت ذواتهم حتي صار الواحد للكل, والكل في واحد, حتي قالوا أبوعبيدة وهو أمير الأمراء بالشام: إني مسلم من قريش.. وما منكم من أحد, أحمر ولا أسود ـ يفضلني بتقوي, إلا وددت أن أكون في إهابه.
إن الإيمان الذي عمر قلوب هؤلاء العظماء, هو مفتاح هذه الصور الرائعة لإنكار الذات.. أعانهم علي تمثل هذه المعاني والتخلق بها, ان كل العبادات والمعاملات والأحكام الإسلامية اهتمت بالجوهر وشجبت ونفرت من كل صور الإدعاء والرياء والتظاهر والاستعراض.
المسلم السوي يتوحد مع الكل.. يعي أن نفحة الله تعالي فيه هي للكل ومن أجل الكل, لا تهمه صدارة ولاقيادة ولا وجاهة ولا أبهة.. يدرك أن الصورة الإسلامية الحقيقية نما توجد مع وجود المعني الجامع وهو الله عز وجل, وبالولاء المطلق لله عز وجل, وفيه وبه لاتنشد النفس سوي رضائه سبحانه الذي تتضاءل وتتلاشي أمامه مغريات المكانة والتصدر والوجاهة!! لقد علم هؤلاء العظماء من السابقين الأولين من الإسلام, أن القيمة هي في الإخلاص وصدق التوجه ونبل الغاية وطلب الحق لا طلب السمعة.. لذلك فهموا أن المكانة في الدنيا وهم وسراب, وأن المسلم السوي لايفتنه شئ من ذلك, لأنه موقن ـ بما زرعه الإسلام فيه ـ أن الناس ينسون ويموتون, وأن الله تعالي وحده حتي لايموت.
المسلم السوي لايفتنه شئ من ذلك, لأنه موقن ـ بما زرعه الإسلامي فيه ـ أن الناس ينسون ويموتون, وأن اللهتعالي وحده حي لايموت.
المسلم السوي يفهم أن المكانة في الدنيا لا تأتي بالضرورة لمن يطلبها ويحرص علي طلبها, وأنها قد تأتي ساعية بنفسها إلي من لا يطلبها بل وإلي من قد يعزف عنها أو يزهد فيها.. والزهد في المكانة: والعزوف عن الإلحاح في طلبها يحتاج إلي مجاهدة لأنه مضاد لطبيعة الآدمي.. وهذه المجاهدة أيسر بحكم الطبيعية والظروف لدي الحكماء والمفكرين والعلماء, منها لدي المنشغلين بلجج الحياة أو المشاركين في إدارة شئون الناس.. فتنافس هؤلاء, وتباريهم, ودعاوي الاهتمام بالعمل العام, قد يجرفهم ـ وربما يدارون به ـ شهوة التصدر والقيادة, بدعوي أن كلا منهم أحكم الناس وأخلص الناس وأقدر الناس!!
ساحة النقاش