‏ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون‏} هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الثلث الثاني من سورة البقرة‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وآياتها‏(682)‏ بعد البسملة‏,‏ وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق‏,وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي معجزة حسية أجراها ربنا‏-‏ تبارك وتعالي‏.

 

‏ علي يدي عبده ورسوله موسي‏-‏ علي نبينا وعليه وعلي كافة أنبياء الله السلام‏-‏ وذلك حين تعرض شخص من قومه للقتل‏,‏ ولم يعرف قاتله حتي يتم القصاص منه‏,‏ فأوحي الله‏-‏ تعالي‏-‏ إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة‏,‏ وأن يضربوا القتيل بجزء منها فيحيا بإذن الله‏-‏ تعالي‏-‏ ليخبر عن قاتله ثم يموت‏,‏ وذلك من أجل إحقاق الحق‏,‏ وإقامة العدل‏,‏ والإشهاد علي قدرة الله‏-‏ تعالي‏-‏ في إحياء الموتي يوم البعث‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي‏,‏ مع الإشارة إلي عدد من ركائز العقيدة الإسلامية‏,‏ واستعراض لصفات كل من المؤمنين والكافرين والمشركين والمنافقين‏,‏ وتفصيل لقصة خلق الإنسان ممثلة في خلق أبوينا آدم وحواء‏-‏ عليهما السلام‏-‏ وعرض لقصص عدد من أنبياء الله ورسله‏,‏ وتناول لمواقف أهل الكتاب بشيء من التفصيل الذي استغرق أكثر من ثلث هذه السورة الكريمة التي ختمت بإقرار حقيقة الإيمان بالله‏,‏ وملائكته‏,‏ وكتبه ورسله‏,‏ وبدعاء إلي الله‏-‏ تعالي‏-‏ يهز القلوب والعقول والنفوس‏.‏
هذا‏,‏ وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة ونركز هنا علي وجه الإعجاز التشريعي في فريضة الصيام في شهر رمضان‏.‏
الإعجاز التشريعي في فريضة صيام شهر رمضان
‏(1)‏ الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للمؤمنين من عباد الله‏,‏ يخبرهم فيه ربهم أن صيام شهر رمضان كتب عليهم كما كتب علي الذين من قبلهم‏,‏ وفي ذلك تأكيد علي وحدة رسالة السماء المستمدة من وحدانية الخالق‏-‏سبحانه وتعالي‏-‏ وهي حقيقة الحقائق في هذا الوجود كله‏.‏
‏(2)‏ وفي هذا النص القرآني تأكيد كذلك علي أن الله‏-‏ تعالي‏-‏ قد ختم وحيه لهداية خلقه ببعثة الرسول الخاتم‏,‏ سيد الأولين والآخرين من ولد آدم‏,‏ النبي العربي الأمي محمد بن عبد الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ فليس من بعده نبي ولا رسول‏,‏ ولذلك قال ربنا‏_‏ تبارك وتعالي‏-‏ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم‏....‏ والفعل‏(‏ كتب‏)‏ يشير إلي ثبات الحكم ثبوتامطلقا‏.‏ بما معناه أن صوم شهر رمضان بالهيئة التي حددها لنا كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كان مكتوبا علي الأمم من قبلنا كما هو مكتوب علينا‏,‏ وسيظل مكتوبا علي جميع المؤمنين من بعدنا إلي قيام الساعة‏,‏ ولذلك قال المصطفي‏-‏ صلي الله علبه وسلم‏-‏ صيام رمضان كتبه الله علي الأمم قبلكم‏(‏ أخرجه ابن أبي حاتم‏).‏
‏(3)(‏ الصوم‏)‏ في اللغة هو الإمساك عن الشيء والترك له‏,‏ وفي الشرع هو الإمساك عن الطعام والشراب وعن غيرهما من المفطرات‏(‏ مع النية‏)‏ من طلوع الفجر الصادق إلي غروب الشمس طوال شهر رمضان‏,‏ لأن صوم شهر رمضان هو أحد أركان الإسلام الخمسة لقول رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ بني الإسلام علي خمس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏,‏ وأن محمدا رسول الله‏,‏ وإقام الصلاة‏,‏ وإيتاء الزكاة‏,‏ وصيام رمضان‏,‏ وحج البيت‏.‏
‏(4)‏ تختتم الآية الكريمة بالإشارة إلي الحكمة من فرض الصيام علي عباده المؤمنين وهي اكتساب فضيلة تقوي الله فقال‏-‏ تعالي‏-‏ في ختام الآية الكريمة‏....‏ لعلكم تتقون والتقوي تعرف بالإيمان الصادق بالله الخالق البارئ‏,‏ المصور‏,‏ وبملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ وباليوم الآخر‏,‏ وبالقدر خيره وشره‏,‏ والخضوع لله‏-‏ تعالي‏-‏ وحده بالعبودية‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة ولا ولد‏),‏ وخشيته في السر والعلن‏.‏ ويعبر عن التقوي بتعبير‏:(‏ الخوف من الجليل‏,‏ والعمل بالتنزيل‏,‏ والاستعداد ليوم الرحيل‏)‏ وهذه القضايا الثلاث تؤصل لرسالة الإنسان في الحياة التي يجب أن يعيها كل عاقل‏,‏ لأنه إذا غفل عنها الإنسان أهدر عمره هباء منثورا‏,‏ ولقي الله صفر اليدين من الحسنات‏,‏ مثقلا بالذنوب والتبعات‏.‏
‏(5)‏ زيادة الإخلاص لله‏-‏ تعالي‏-‏ في قلب الصائم‏,‏ لأن الصيام تجسيد لطاعة الله‏,‏ ولحقيقة العبودية له‏,‏ وامتثال كامل لأوامره‏,‏ ولذلك قال‏-‏ تعالي‏-‏ في حديثه القدسي الذي يرويه عنه خاتم أنبيائه ورسله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به‏...(‏ رواه كل من أحمد‏,‏ والبخاري‏,‏ ومسلم‏,‏ والنسائي‏)‏ ومن اللافت للنظر أنه ما عبد غير الله بالصيام أبدا ولذلك قال‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏.‏
‏(6)‏ الصيام وسيلة رائعة من وسائل التربية للنفس الإنسانية وذلك بتعويدها علي الصبر وتحمل المشاق‏,‏ وفي ذلك يقول‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ الصوم نصف الصبر‏,‏ والصبر من منازل المؤمنين بالله المتقين لجلاله‏.‏
والصيام يربي في الصائم قوة الإرادة‏,‏ وتعاظم العزيمة‏,‏ والقدرة علي التحكم في الرغائب والشهوات‏,‏ وهي من أيسر مداخل الشيطان إلي النفس الإنسانية‏,‏ ويعتبر الصوم من أعظم وسائل الإنسان لصد الشيطان‏,‏ لأنه يعود الصائم علي الوقوف عند حدود الله‏,‏ وذلك من أعظم الثمرات المرجوة من هذه العبادة‏.‏
والصيام يعود الصائم علي الالتزام بمكارم الأخلاق‏,‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث‏,‏ ويقول‏...‏ والصيام جنة‏,‏ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث‏,‏ ولا يصخب‏,‏ فإن سابه إحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم‏.‏ ويقول من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه‏.‏
‏(7)‏ والصيام يعود المسلم علي الانتظام في العبادة‏,‏ وعلي الاجتهاد في حسن أدائها‏,‏ فيجمع إلي الصلوات المفروضة وسننها‏,‏ العديد من السنن الأخري ومنها صلاة التراويح‏,‏ وقيام الليل‏,‏ والمواظبة علي قراءة القرآن ومدارسته‏,‏ وعلي التفقه في الدين بحضور مجالس العلم‏,‏ والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان‏,‏ وأداء عمرة رمضان إن استطاع إلي ذلك سبيلا لقول رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ عمرة في رمضان تقضي حجة أو قال حجة معي‏.‏ وقال من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏.‏
تعويد المسلمين علي مدارسة القرآن الكريم طوال شهر رمضان‏-‏ وهو شهر القرآن‏-‏ يعينهم علي عدم هجر القرآن بقية العام‏:‏ قراءة‏,‏ وفهما‏,‏ وتدبرا‏,‏ وتطبيقا واقعا في حياة الناس‏,‏ ورسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ يقول‏:‏ الصيام والقرآن يشفعان يوم القيامة للعبد‏,‏ يقول الصيام‏:‏ أي رب‏!‏ منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه‏,‏ ويقول القرآن‏:‏ منعته النوم بالليل فشفعني فيه‏,‏ قال‏:‏ فيشفعان‏.‏ وشهر رمضان كما أنه هو شهر الصيام‏,‏ وشهر القرآن‏,‏ وشهر العبادة‏,‏ فمن صفاته أيضا أنه هو شهر الدعاء‏,‏ والدعاء هو مخ العبادة‏,‏ ومن أجمل صور التعبير عن حقيقة العبودية لله‏-‏ تعالي‏-‏ وقوف العبد متضرعا إليه بالدعاء‏.‏ والدعاء في رمضان أحري بالإجابة لقول رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد‏(‏ ابن ماجه‏),‏ وقوله‏:‏ ثلاثة لا ترد دعوتهم‏:‏ الصائم حتي يفطر‏,‏ والإمام العادل‏,‏ ودعوة المظلوم‏(‏ الترمذي‏).‏ ومن بركات شهر رمضان تعرض الصائمين لبركات ليلة القدر التي يصفها القرآن الكريم بأنها خير من ألف شهر‏(‏ أي خير مما يزيد علي‏38‏ سنة من العبادة‏),‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏,‏ وقال‏:‏ تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان‏.‏
‏(8)‏ تعويد الصائم علي الجود والكرم‏,‏ وعلي البذل في سبيل الله‏,‏ لاستشعاره بآلام الجوع والعطش مما يجعله يدرك جانبا من معاناة الفقراء والمحتاجين في مجتمعه‏,‏ فيندفع لمساعدتهم بما تجود به نفسه التي هذبها الصيام في شهر رمضان‏,‏ وهذا يعين علي حسن التواصل بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الواحد‏,‏ ويزيل آثار الحسد والغل والضغينة من قلوب المحتاجين‏,‏ ويملأ قلوب الأغنياء بالعطف والحنان علي الضعفاء وذوي الحاجة من حواليهم فتستقيم الأمور‏,‏ وتأمن المجتمعات‏.‏ وجاء في حديث ابن عباس‏-‏ رضي الله عنهما‏-‏ أن رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ كان أجود الناس‏,‏ وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل‏,‏ وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن‏,‏ فلرسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ أجود بالخير من الريح المرسلة‏(‏ أخرجه الإمام البخاري‏).‏ وقال‏-‏ صلوات ربي وسلامه عليه‏-‏ الصوم جنة‏,‏ والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار‏(‏ أخرجه الإمام الترمذي‏),‏ وسئل‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ أي الصدقة أفضل ؟ قال‏:‏ صدقة في رمضان‏(‏ أخرجه الإمام الترمذي‏),‏ وفي ذلك يروي عن رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ من فطر صائما كان له مثل أجره‏,‏ غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء‏.(‏ أخرجه الإمام الترمذي‏).‏
‏(9)‏ من الحكمة في تشريع الصيام إتاحة الفرصة لأجساد الصائمين بأخذ فترة راحة استشفائية يتم خلالها تطهيرها مما تجمع فيها طوال السنة‏,‏ من الدهون‏,‏ والشحوم‏,‏ والسموم‏,‏ والنفايات‏,‏ ومسببات الأمراض‏,‏ ويتم خلال تلك الفترة أيضا إصلاح ما أصاب الجسم من أعطاب‏,‏ وذلك لأن‏(01%)‏ من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلي جسم الإنسان تذهب إلي الجهاز الهضمي أثناء عملية هضم الطعام‏,‏ ويتوقف دفع هذه الكمية أثناء الصيام مما يقلل من إجهاد عضلة القلب‏,‏ ويريحها طوال فترة الصيام‏.‏ هذا بالإضافة إلي ما ثبت للصوم من فوائد صحية عديدة لا يتسع المقام لذكرها خاصة في تأثيره الإيجابي علي قدرات التفكير والتذكر‏,‏ وفي تقوية جهاز المناعة‏,‏ وتعجيل الشفاء من العديد من الأمراض‏.‏ نذكر ذلك مع إيماننا بأن الأصل في العبادات أنها طاعة لله‏-‏ تعالي‏-‏ لا تعلل‏,‏ وإن كان إدراك العلة يعين علي حسن الفهم‏,‏ وحسن الأداء‏,‏ وتحقق الأجر وافرا إن شاء الله‏.‏
‏(01)‏ إحياء روح الجهاد في أمة الإسلام‏,‏ وذلك بتذكير المسلمين بأن جميع انتصاراتهم العسكرية كانت في شهر رمضان ابتداء بغزوة بدر الكبري‏,‏ ثم فتح مكة‏,‏ ثم فتح كل من رودس‏,‏ وبلاد الأندلس‏,‏ وتحرير فلسطين من أيدي الصليبيين في معركة حطين‏,‏ ثم من أيدي التتار في موقعة عين جالوت‏,‏ إلي معركة الشرف والكرامة التي دكت حصون الصهاينة في العاشر من رمضان سنة‏3931‏ هجرية الموافق السادس من أكتوبر سنة‏3791‏ م‏.‏
‏(11)‏ صوم شهر رمضان يذكر المسلمين بحقيقة أنهم أمة واحدة‏,‏ لديها من عوامل التوحد ما لا يتوافر لغيرها من الأمم‏,‏ فلعلهم يستشعرون ذلك‏,‏ فيسعوا إلي توحيد صفوفهم ولو علي مراحل حتي يتمكنوا من العيش بكرامة وسط عالم التكتلات الذي نعيشه‏.‏
هذه بعض أوجه الحكمة من التشريع الإلهي بصوم شهر رمضان‏,‏ والتي جمعتها الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال في قول ربنا‏-‏ تبارك وتعالي‏-...‏ لعلكم تتقون‏)‏ ولذلك قال رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له‏.‏
 

 

المزيد من مقالات د. زغلول النجار

boysegypt

amr

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 111 مشاهدة
نشرت فى 15 أغسطس 2010 بواسطة boysegypt

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

73,357