شكّلت ظاهرة «موت اللغات» موضوع العديد من الكتب والدراسات في الغرب خلال السنوات الأخيرة. هذا خاصة في سياق «الزحف» اللغوي الذي تقوم به اللغة الإنجليزية، بحاملها «الأميركي» أوّلاً، وفي إطار العولمة اللبرالية السائدة.
وإذا كانت اللغة الفرنسية في عداد اللغات «المهددة» فإن الباحثين الكنديين جان بونوا نادو وجولي بارلو، يذهبان في اتجاه آخر في كتابهما المشترك الذي يحمل عنوان: «اللغة الفرنسية، أي تاريخ»! ويشرحان على مدى أكثر من 450 صفحة، أن «المستقبل مفتوح» فاللغة الفرنسية ليست مهددة بالانحسار، بل تتدعّم مواقعها و«تتقدّم» مسيرتها.
ويقدّم المؤلفان سلسلة من الوقائع والإحصائيات والمعلومات التي تصبّ كلها في تأكيد مقولتهما الأساسية حول مستقبل اللغة الفرنسية ومستقبلها «المشرق». هكذا مثلاً تتم الإشارة إلى أن عدد الناطقين باللغة الفرنسية في العالم كان 200 مليون نسمة عام 2005 ووصل عام 2007 إلى 220 مليون نسمة.
وهناك اليوم 14 دولة من أصل دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين من عداد أعضاء منظمة الفرنكوفونية. ووقائع أخرى عدة يذكرها المؤلفان وهي مأخوذة من التاريخ أو من الواقع الراهن أو من الدراسات والإحصائيات المختصة. هكذا نعرف أنه في فرنسا نفسها كان هناك كتاب واحد من أصل كل عشرة كتب منشورة باللغة الفرنسية خلال عصر «النهضة» أي في القرن السادس عشر. وفي حقبة لويس الرابع عشر، المعروف بـ«الملك الشمس» كانت هناك بالكاد نسبة 20 بالمائة من السكان، الفرنسيين، يتحدثون اللغة الفرنسية.
بالمقابل تشير الأرقام المنشورة في هذا الكتاب أن عدد القرّاء باللغة الفرنسية تضاعف ثلاث مرات في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. وربع الأساتذة الذين يعلّمون اللغات في العالم، أي حوالي، مليون مدرّس يقومون بتدريس اللغة الفرنسية لطلبتهم الذين يزيد عددهم عن مائة مليون تلميذ وطالب. ومن الإحصائيات المقدّمة تلك التي تشير أن ما بين ستة وعشرة ملايين أميركي يتحدثون اللغة الفرنسية.
وفي نفس الإطار تدل دراسات مختصّة أن نصف الجزائريين يتحدّثون اللغة الفرنسية، لغة الاستعمار السابق. هذه اللغة تحتوي اليوم على أكثر من مليون كلمة وتقوم الهيئات اللغوية المختصة، مثل الأكاديمية الفرنسية وغيرها، بإثراء القاموس الفرنسي بحوالي 50000 كلمة جديدة سنويا.
ثم هناك أكثر من ثلث القاموس اللغوي الإنكليزي الأساسي مأخوذ من الفرنسية. تتم الإشارة هنا أيضا أنه منذ عام 1987 هناك فائز من كل خمسة فائزين بجائزة الغونكور الأدبية، أهم جائزة أدبية فرنسية، هو من الذين لا تشكل الفرنسية «لغتهم الأمّ». ومن بين هؤلاء أمين معلوف والطاهر بن جللون وعتيق رحيمي الأفغاني.
وفي عداد أعضاء الأكاديمية الفرنسية المعروفين بصفة «الخالدين» الذين يبلغ عددهم 35 عضوا يوجد من بين الأحياء منهم اليوم (في شهر يناير- كانون الثاني 2011) أربعة لا تمثّل الفرنسية لغتهم الأم وهم فرانسوا شينغ الصيني حتى اكتسابه الجنسية الفرنسية وآسيا جبار الجزائرية الأصل وهيلين كارير دانكوس التي كانت تتحدث أصلا الروسية مع والدتها وهكتور بيانسويتي الذي حصل على الجنسية الفرنسية عام 1981.
من الملفت للانتباه أنه منذ عام 1945 لم تتراجع اللغة الفرنسية في المستعمرات السابقة من حيث عدد المتحدثين بها ونسبتهم إلى مجموع السكان باستثناء كل من سوريا وفيتنام ولاوس وكمبوديا. لكن تبقى الفرنسية في المرتبة العالمية الثانية من حيث الدول التي تمثل اللغة الرسمية فيها (36 دولة) بعد اللغة الإنكليزية. لكن قبل العربية والإسبانية بواقع 21 دولة لكل منها. تأتي بعد ذلك البرتغالية في 8 دول فالألمانية 7 دول.
إن اللغة الفرنسية كما يقدمها المؤلفان ليست مجرّد لغة للتواصل بين المتحدثين بها. وينقلان بهذا الصدد عن ألبير كامو، صاحب رواية «الغريب» الأكثر قراءة بين الروايات الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية قوله: «وطني، هو اللغة الفرنسية». من المعروف أن كامو من مواليد الجزائر من أم اسبانية وأب فرنسي.
والفرنسية هي بعد الإنكليزية اللغة التي يفكر بها الدبلوماسيون السويسريون والمهندسون البلجيكيون والمثقفون السنغاليون والجنود الكونغوليون. يتم التأكيد في هذا السياق على خطأ الفكرة القائلة أن «حرب» اللغات هي لعبة تتقدّم فيها إحداها على حساب اللغات الأخرى بالضرورة. البرهان على خطأ مثل هذه الفكرية هو أنه منذ قرنين من الزمن لم يتراجع عدد المتحدثين بأية لغة من اللغات الهامة لمصلحة لغة أخرى.
إن تقدم لغة ما لا يتم بالضرورة إذن على حساب لغة أخرى. ولكن على قاعدة الشروط الاجتماعية الخاصة بها. والأمر نفسه بالنسبة للغات التي تتراجع. في الحالتين يتعلق الأمر بظروف وخيارات لملايين الأشخاص. ثم «إن اللغة الفرنسية لم تعد ملكاً لفرنسا منذ ألف عام»، تقول إحدى الجمل الأخيرة من الكتاب.
الكتاب: اللغة الفرنسية أي تاريخ!
تأليف: جان بونوا نادو جولي بارلو
الناشر: تيليمارك مونريال كندا 2011
الصفحات: 464 صفحة
القطع : المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 682 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

67,247