يرى الباحث الدكتور عبد الله حنا أن العدو الأول والأساسي للنهضة في أي زمان ومكان هو الاستبداد، وتكاد العقلانية أن تكون- برأيه- هي السبيل الوحيد لمجابهة الاستبداد. ويخصص القسم الأكبر من هذا الكتاب للإحاطة بهذين المفهومين، ومتابعة الخط البياني الصاعد والهابط لكل منهما.
ويشير إلى أن الفترة الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين قد شهدت بروز أعلام النهضة العربية، حاملي لواء العقلانية والتنوير ومقارعة الاستبداد.
ويقسم المراحل التي مر بها العالم العربي، وبالأخص في بلاد الشام والعراق إلى أربع:
المرحلة الأولى: تبدأ مع التنظيمات الإصلاحية في منتصف القرن التاسع عشر وحتى انهيار الدولة العثماني 1918 وقد سادتها مرحلة مظلمة هي فترة استبداد السلطان عبد الحميد الثاني (1870- 1908).
المرحلة الثانية: تمتد بين الحربين العالميتين، وتتميز بتكون الوعي الوطني، وانتشار الأفكار العقلانية واشتداد ساعدها، ورفع راية النضال الوطني المناهض للإمبريالية، وظهور مؤسسات المجتمع المدني.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة نيل الاستقلال الوطني بعد الحرب العالمية الثانية ومن سماتها، السير في طريق التصنيع، الإصلاح الزراعي، التأميمات، تعاظم دور الدولة وتراجع دور الولاءات العشائرية والطائفية والعائلية، واتساع الولاءات الوطنية والقومية.
المرحلة الرابعة: وتشمل الربع الأخير من القرن العشرين، وتتسم بتراجع أفكار النهضة، وانتعاش العشائرية والطائفية، وخفوت وهج العقلانية، واحتلال التيارات الدينية (المتشددة) الساحةَ الأوسع من النشاط الفكري والعمل السياسي، وعودة الفكر الغيبي والتعلق بالأساطير والخرافات.. ترافقَ هذا مع ازدياد شكيمة الدولة الأمنية، وهيمنتها على المفاصل الأساسية من حركة المجتمع.
ويذهب المؤلف إلى أن من واجب القوى العربية الحية النيرة توضيح أن معركتنا مع الامبريالية الأميركية والحركة الصهيونية هي أبعد ما تكون- كما يعلن الإسلاميون- عن كونها معركة بين الشرك والإيمان، أو استمراراً للحروب الصليبية السابقة، فمن يقول بهذا الرأي إنما يغفل دور العوامل الاقتصادية في معارك التاريخ، ويبتعد من ثم عن الأسباب الحقيقية لهذه الحروب.
من ظلم أهالي دمشق من الموالي والرعية والحِرَف، ومن النصارى والإفرنج، ومن البساتنة، ومن أهالي الأراضي، ومن أهالي القرايا حول الشام.. وعساكر الوزير طافت على القرى والضياع حوالي الشام ونهبوها مهبة خفية وخربوا البلاد والزراعات ومساكن الفلاحين).
وبحسب المؤرخ ميخائيل الدمشقي فقد نزحت أعداد كبيرة من أهل الشام هرباً من الظلم في أيام أحمد باشا الجزار، وبعد قرن من الزمان اشتد النزوح من بلاد الشام والهجرة إلى أميركا تخلصاً من الفقر وهروباً من استبداد عبد الحميد وظلم وزرائه وولاته وموظفيه.
في سنة 1896 نشأت في دمشق حلقة صغيرة ضمت لفيفاً من علماء (شيوخ) دمشق في طليعتهم عبد الرزاق البيطار وجمال الدين القاسمي، هؤلاء الشيوخ أخذوا يجتمعون على قراءة الحديث ويطلبون الدليل على أقوال الفقهاء. فما كان من السطة العثمانية في دمشق إلا أن حاكمتهم بـ (تهمة الاجتهاد)!
كان الشيخ محمد رشيد رضا تلميذاً لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكان في بداياته ممالئاً للاستبداد، إذ دأب في الأعداد الأولى من مجلته (المنار) التي أسسها في القاهرة ونقلها إلى دمشق على مديح السلطنة العثمانية والسلطان عبد الحميد، ولكنه، بعد زمن شرع يقلل من المديح، ثم انتقل إلى الهجوم على الاستبداد، وأصبح من أنصار الدعوة إلى إعمال العقل.
وهذا ما كان من موقفه مع حادثة (تهمة الاجتهاد) إذ انتقدت المنار في أحد أعداد سنة 1904 الزعمَ القائل بأن باب الاجتهاد قد أُقفل بعد القرن الخامس. وجاء في المقالة حرفياً: لا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضارُّه فكثيرة ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استقلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كلَّ علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى.
وتطورت شخصية محمد رشيد رضا باتجاه العقلانية حينما نشأت بينه وبين المتنور العلماني شبلي الشميِّل علاقة وطيدة، وكان يدافع عنه حينما يتعرض للانتقاد والهجوم، وحينما توفي الشميل كتب رشيد رضا عنه، في المنار، مقالة في ثماني صفحات، جاء فيها:
كان شبلي الشميل فذاً نادر المثل في مجموعة علومه وأفكار وأخلاقه، وكان من طلاب الإصلاح المدني والتجديد الاجتماعي. إن معظم النصارى لا يرون في عدم تدينه مانعاً من إصلاحه الاجتماعي، وأما المسلمون فينظرون إليه على أنه طبيب عالم اجتماعي غير مسلم، ولكنه أقرب إليهم من غيره إلى التساهل والإنصاف، بسبب حريته واستقلال فكره.
ومن أعلام التنوير والعقلانية الحلبي فرنسيس المراش الذي سافر إلى باريس ومن هناك أصدر كتابه «غابة الحق».
ومن أبرزهم عبد الرحمن الكواكبي الذي أصدر جريدة «الشهباء» وهي أول جريدة ناطقة بالعربية في حلب، وسرعان ما أغلقتها السلطات العثمانية لتعارضها مع خط الاستبداد. وشن في كتابه «طبائع الاستبداد» الصادر في مصر 1923 هجوماً على الظلم والظالمين، مستقياً أمثلته من التاريخ العربي والإسلامي والتاريخ الأوربي..
جاء في الكتاب:
لا مجال لرمي الإسلامية بالاستبداد، فالإسلامية مؤسسة على أصول الإدارة الديمقراطية، أي العمومية والشورى الأرستقراطية، أي شورى الأشراف.
الاستبداد يضغطُ على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده.
العوام هم قوت المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول، وبهم على غيرهم يطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء الحياة.
الاستبداد قد يستمجد بعضَ الأفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتخذهم كنموذج البائع الغشاش الذي لا ينتخب عماله وأعوانه إلا من الأراذل والأسافل، ولهذا يقال: دولة الاستبداد هي دولة الأوغاد.
ومن أعلام التنوير والعقلانية الحمصي عبد الحميد الزهراوي الذي أصدر جريدة «المُنير» التي كانت توزع سراً في البلاد السورية، لأنها كانت متوافقة مع سياسة جمعية الاتحاد والترقي التي ظن الأحرار من العرب أنها ستنقذهم من الاستبداد الحميدي، ثم أوقفت، فذهب إلى اسطنبول وعمل محرراً في جريدة «معلومات» العربية. ولم يتراجع عن آرائه الإصلاحية.
وكان محمد كرد علي من مثقفي الشام، تعلم الفرنسية واطلع من خلالها على منجزات الحضارة الغربية (البورجوازية). وسافر إلى مصر وأصبح من دعاة النهضة، وأصدر في مصر مجلة «المقتبس» التي تولت مهمة تعريف قراء العربية على مشاهير العلماء الأوربيين والعلماء المسلمين. وبعد زوال الحكم الاستبدادي الحميدي (1909) عاد إلى الشام واستأنف إصدار مجلته من هناك.
ويفرد المؤلف بحثاً خاصاً لدراسة عوامل الانكفاء (من التنوير والسلفية النهضوية.. إلى التزمت والسلفية المتشددة).. فيشير إلى استمرار بقايا العلاقات الإقطاعية في عدد من المناطق العربية، ووجود الأنماط الحرفية لفئات ذات وعي اجتماعي متخلف، والتبعية للسوق الرأسمالية، وضعف تبلور البنية الطبقية الرأسمالية العربية وعجزها عن القيام بما حققته البرجوازية الأوربية.
الكتاب: أعلام العقلانية والتنوير ومجابهة الاستبداد
تأليف: عبد الله حنا
الناشر: دار نون 4 حلب 2010
الصفحات: 158 صفحة
القطع: المتوسط
المصدر: جريدة البيان/ خطيب بدلة
نشرت فى 17 أكتوبر 2010
بواسطة books
عدد زيارات الموقع
68,787
ساحة النقاش