يوضح هذا الكتاب أن شتراوس أنهى العهد الاستعماري الذي كان يقول بوجود شعوب متخلفة أو بدائية وشعوب متقدمة أو حضارية. لأن العقل والمنطق والقدرة على تنظيم الحياة والتفكير الميتافيزيقي، قضايا موجودة لدى كل الشعوب بشكل متساو، وأن الاختلافات في عقائد الشعوب وأفكارها الرمزية لا يعني أن هناك شعوبا أرقى من أخرى.
فكل حضارة، ولاسيما الحضارة الغربية، هي « مجرد إجابة بين إجابات أخرى على الوضع الإنساني »، ولكنها بالتأكيد ليست الإجابة الأفضل. فستروس لا يمجد الحضارة الغربية بطريقة مجانية وبطولية وحسب، بل إنه يوجه لها انتقادات لاذعة، كونها حضارة قابلة للاستنساخ حولت البشر إلى «شمندر سكري »، فاليوم نحن نعيش حضارة الثقافة الواحدة المتشابهة، حيث الهيمنة الشاملة للإنسان على طبيعة مسحوقة، وتدمير متزايد لكل تنوع ثقافي عبر المعمورة.وعلى المستوى الشخصي، فقد عاش ستروس « مائة عام من العزلة ». فهو لم يحب عصره كثيراً، أما حياته فكانت هادئة متكتمة لا مبالية، سابحة في تيار معاكس لكل الموضات.
فإذا كان ستروس قد أثر في عصره تأثيراً عميقاً، فإن عصره لم يؤثر فيه أبداً، ولذلك فإن عالم الأعراق الكبير فضل معاشرة القبائل القديمة في أميركا اللاتينية والشرق.
ويعد ستروس من المؤسسين لعلم الأعراق الحديث « الأثنولوجيا ». وماهية هذا العلم فتقوم على نقد نزعة التمركز العرقي حول الذات، وتحويل دراسة أساطير الشعوب إلى « علم » له أسس وقواعد ومنهج في البحث.
وتقوم هذه الأسس على أن أي حضارة ستقع في النرجسية والتمركز حول الذات، إذا لم تتوفر لها حضارات أخرى تقارنها بنفسها، وتتأمل في أوجه الخلاف معها،فمع ستروس أصبحت الأساطير ليست مجرد أفكار لاعقلانية مبعثرة لا قيمة معرفية لها، بل إنها تعبر عن المشاعر العميقة للجماعة، وتعلل الظواهر الغريبة، وتنفس عن مشاعر ترزح تحت وطأة الكبت، فالأسطورة تحولت إلى « خطاب له بنية لسانية»، وله بنية لا شعورية،يتوجب علينا البحث عنها.
ولذلك فأن ستروس يدعو العلوم الأوروبية الحديثة، إلى الكف عن التشكك في حضارات وأساطير وفلسفات الشعوب الأخرى، بل إنه ذهب إلى البرازيل ليدرس قبائلها ويثبت أن كل القبائل لها حياة عقلية راقية، وتصوغ منظومة منطقية عميقة، تنظم من خلالها حياتها وشؤونها الثقافية والدينية والروحية.
فمع ستروس لم يعد هناك شيء أسمه خرافة، لأن كل أشكال التفكير أصبح لها معنى ووظيفة تقوم بها وأهداف تريد الوصول إليها، ووصف أي تفكير بأنه خرافي يعني أن صاحب الوصف هو الذي لا يفهم ما تريد أن تقوله تلك الخرافات، فجميع خرافات وأساطير وفلسفات وأديان الشعوب، في الشرق والغرب، ليس لها سوى هاجس واحد، ألا وهو الرغبة في صيانة بقاء الإنسان واستمرار وجوده، ولذلك فإن كل التقاليد والطقوس والحِكم تحاول ضمان حماية الإنسان، وجعله طرفاً فاعلاً في الحياة.
أما المفاجأة التي نجدها بين ثنايا هذا الكتاب، فهي موقف ستروس من الإسلام والمسلمين. فعلى الرغم من إنصافه لكل معتقدات وحضارات الشعوب التي درسها ،ولاسيما الهنود الحمر والقبائل التي عاش معها في الشرق والبرازيل، إلا أننا سرعان ما نستغرب موقفه السلبي والقاسي على حضارة الإسلام والمسلمين، التي التقى معها في باكستان والهند،ففي كتابه « المداران الحزينان » يبين ستروس أن المسلمون في الهند لم يشيدوا سوى المعابد والقبور. حتى القبور على الرغم من فخامتها وضخامة أحجامها إلا أن الميت يبدو فيها أسيراً ومحاصراً، وهذه صورة يمكن أن تعبر عن الحضارة الإسلامية ككل.
فهذه الحضارة تعويضية، بمعنى أنها تقدم القصور الفاخرة وعيون ماء الورد ومأكل مغطاة بأوراق من الذهب، لكي تغطي على خشونة الأخلاق الإسلامية والتزمت الديني والطابع الإكراهي لتعاليمه،
فالإسلام متسامح في الظاهر والخطابات العامة، غير أنه ذو طابع إكراهي، متطهر شكلاً يدعو إلى العفة والطهارة، لكنه ذو نزعة حسية مفرطة، تتجلى في اهتمامه بالعطور والمطرزات،بل إن الإسلام يعيش حالة أزمة دائمة.
وتبدو مشكلة المسلمين، من وجهة نظر ستروس، أنه وعلى الرغم من اعترافهم بقيم الحرية والمساواة والتسامح، إلا أنهم يؤكدون بالاندفاع نفسه بأنهم هم وحدهم من يمارسها.ويفسر بعض الكتّاب هذه «اللا موضوعية » الموجودة في نظرة ستروس للإسلام، بأنها تعود إلى مخاوفه من أن تتحول فرنسا إلى «بلاد مسلمة»، بينما أرجعها آخرون إلى أصوله اليهودية، وأرجعها فريق ثالث إلى أنه أطلع على تجربة إسلامية معينة هي التجربة الهندية ، وهو أمر لا يسمح له بان يعمم الأفكار التي توصل إليها.
الكتاب : مئوية كلود ليفي ستروس
تأليف : مجموعة من الكتاب
الناشر : دار بترا للنشر والتوزيع رابطة العقلانيين العرب
بيروت 2009
الصفحات : 151 صفحة
القطع : الصغير
المصدر: رشيد الحاج صالح/ جريدة البيان
نشرت فى 21 يوليو 2010
بواسطة books
عدد زيارات الموقع
68,297
ساحة النقاش