تقول فكرة سائدة إن التاريخ الاقتصادي مرتبط بتطور العالم الأوروبي. لكن فيليب نوريل، الباحث الاقتصادي والأستاذ الجامعي، يؤكد في كتابه الأخير «التاريخ الاقتصادي الشامل» أن التاريخ الاقتصادي لم يكن أولا هو تاريخ أوروبا.
بل إن الفترة الجنينية للاقتصاد الحديث شهدها الشرق بالأحرى كما تشهد عملية الانتقال التي عرفتها المنطقة الإفريقية مع بلدان المناطق الآسيوية-الأوروبية قبل عصر النهضة الأوروبي. وكان ذلك الانتقال يشمل المنتجات والسلع، ولكن أيضا البشر ومختلف التقنيات.وتتوزع مواد هذا الكتاب بين ثلاثة أقسام رئيسية تحمل العناوين التالية: «التاريخ الاقتصادي ليس أولا تاريخ أوروبا» ثم «النظام العالمي والتاريخ الاقتصادي الشامل» وأخيرا: «ازدهار الغرب والتاريخ الشامل».ويحاول المؤلف بداية أن يشرح آليات عمل المؤسسات الأوروبية التي قامت بالمبادلات التجارية العالمية الأولى. ويبيّن أنه بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية عرفت القارّة عمليات تبادل تجاري متواضعة بين مختلف بلدانها وعلى نفس النمط الذي كانت تتم ممارسته منذ فترة طويلة على طرق الحرير.
ولا يتردد في التأكيد بهذا السياق أن أوروبا وجدت نفسها مسبوقة كثيرا من قبل الشرق فيما يتعلق بمعدّل النمو الاقتصادي والزيادة السكانية وعلى الصعيد العمراني، وكذلك على صعيد التطور التقني على الصعيدين التجاري والزراعي.
ولا يتردد المؤلف في القول بهذا السياق أن القطيعة في النزعة الأوروبية للتمركز حول الذات والتأكيد على التفوّق في التاريخ الأوروبي، تشكّل أحد الرهانات الأساسية والحاسمة في التاريخ الاقتصادي الشامل للعالم.
وخلف العنوان «التقريري» للكتاب: «التاريخ الاقتصادي الشامل» يقدّم المؤلف نوعا من «المرافعة الحادة» ضد المبالغة في الدور الأوروبي بصياغة التاريخ الاقتصادي العالمي. ويشير إلى نزعة الانطواء على الذات عندما يصرّ المؤرخون الأوروبيون على البحث عن «أسباب الازدهار الاقتصادي في القارة القديمة داخل حدودها فقط.
ويصرّ هؤلاء المؤرخون أيضا على الحديث عن عصر النهضة والاكتشافات الكبرى والانتقال من المنظومة الإقطاعية إلى النظام الرأسمالي والثورة الصناعية الكبرى ابتداء من القرن السابع عشر و»الغزو« الاقتصادي للعالم.
وكأنها لحظات القوة في التاريخ الأوروبي الذي «يكتفي بذاته». وبالمقابل يتم اختزال دور بقية بلدان العالم وحضاراته إلى مجرد «المتلقّي السلبي للأنوار الأوروبية» أو ل»الضحية خلف وهم التفوّق».
وما يؤكده فيليب نوريل هو أن مثل هذه الأطروحات قد أثبت التاريخ نفسه عدم صحتها. فهذا التاريخ حافل في الوقائع التي تؤكد على أن مبادلات تجارية كبيرة جرت بين مختلف مناطق العالم باستثناء القارة الأميركية حتى القرن الخامس عشر، ذلك أن كريستوف كولومب قد «اكتشفها» عام 1492.
وتتم الإشارة في نفس هذا السياق أنه في الموقف الذي كان فيه العالم الإسلامي والصين يعرفان درجة عامة على الصعيد الاقتصادي ما بين القرن الخامس والقرن الخامس عشر، كانت القارة الأوروبية تعيش حالة من التخلّف.
كما تتم الإشارة هنا أيضا إلى أن عددا من المؤرخين الأوروبيين أكّدوا على المساهمات الكبرى والحاسمة الصينية والهندية والعربية في النهوض الاقتصادي الأوروبي.
كذلك لا يتردد المؤلف في التشكيك بالرواية السائدة والتي تحتويها الكتب المدرسية التاريخية في العديد من البلدان الأوروبية والقائلة أن علماء وبحّارة أوروبيين هم الذين كانوا وراء اكتشاف طريق الهند عبر الدوران حول رأس الرجاء الصالح. وأنهم وراء اكتشاف القارة الأميركية.
وما يتم تأكيده هو أن تقنيات الإبحار التي اشتهر فيها البرتغاليون بأوروبا، وسلسلة التجديدات التي قاموا بها، كانت بالأحرى نتيجة لاختراع البوصلة التي اخترعها الصينيون أولا ثم ينقل المؤلف عن المؤرخ «جون م. هوبسون» تأكيده أن البحّارة العرب قد حسّنوها وجابوا المحيط الهندي منذ الألف الأولى.
ويصل المؤلف في هذا السياق إلى التأكيد أنه، ودون أي بحث لديه للتقليل من أهمية الاكتشافات العلمية التي قام بها البريطانيون خاصة، وغيرهم من الأوروبيين، ما كان للثورة الصناعية في أوروبا، والتي سمحت لها أن تسود القرون عديدة على العالم، أن تقوم بدون الاعتماد على التقنيات الشرقية، وخاصة الهندية والعربية.
وعلى جانب آخر، تؤكد التحليلات المقدّمة أن العديد من التقنيات المالية مثل الرسائل التجارية وعقود المشاركة وغيرها التي أعطت للبندقية وجنوة دورهما المتميز الصاعد في أوروبا، إنما كان مصدرها هو التجّار من العالم العربي حيث كانت تلك التقنيات مضيّقة منذ فترة قديمة. وهذا ما يجد فيه المؤلف البرهان على أن «اقتصاد السوق» كان متطورا آنذاك في الشرق أكثر مما هو في أوروبا.
وكانت أهم السلع في ذلك السوق هي الحرير والأحصنة والخشب والنحاس والسكّر، الخ. كتاب فيه الكثير عن العرب وتاريخهم ودورهم الحضاري... ويستحق الانتباه إليه.
الكتاب: التاريخ الاقتصادي الشامل
تأليف: فيليب نوريل
الناشر: سويل باريس 2009
الصفحات: 261 صفحة
القطع: المتوسط
ساحة النقاش