هل للفنون وظيفة اجتماعية؟ سؤال طالما تردد، وطالما تباينت واختلفت الإجابات حوله ابتداء من القول ان الفن له أثر في مسارات المجتمعات ووصولا إلى القول إن الفنون تملك قوّة تغيير الأشخاص، وبالتالي تغيير المجتمعات.
الأستاذان في جامعة وورويك الانكليزية، اليونورا بيلفيور واوليفييه بينيت، يكرسان كتابا كاملا للبحث في وظيفة وقيمة وتأثير الفنون في المجتمعات الغربية خاصّة وفي المجتمعات الإنسانية عامة تحت عنوان: «الأثر الاجتماعي للفنون، تاريخ فكري».
وتبدأ كتابة هذا «التاريخ الفكري» باستعراض أشكال النقاش الدائر اليوم على الساحة الفكرية الغربية حول موضوع «السمات الذاتية، الداخلية، للفن» ومدى علاقة هذه السمات ب«استخدام الفن» كأداة في التغيير الاجتماعي إلى هذه الدرجة أو تلك.
وما يؤكّد عليه المؤلفان هو أن مثل هذا النقاش قديم جدا وقد شكّل باستمرار جزءا هاما من تاريخ الأفكار الذي يبلغ عمره أكثر من 2000 سنة مع اليونانيين ؟ الإغريق - القدماء. وتتم الإشارة إلى الحديث عن وجود علاقة بين الفن والمجتمع في كتابات أرسطو، كما في «جمهورية أفلاطون».
إن المؤلفين وعبر تقصّيهما عن مكانة الفن في تاريخ الأفكار يصلان إلى القول انه «لا جديد تحت الشمس» فيما يتعلق بالحجج بكل تنوعاتها ومشاربها الخاصة بمكانة الفنون الاجتماعية. لكنهما يبينان بالوقت نفسه كيف أن دلالات بعض المفاهيم الأساسية الخاصة بهذه المكانة قد عرفت تطورا كبيرا عبر مرور الزمن. وعلى رأس هذه المفاهيم: «قوة التغيير التي تمتلكها الفنون» و«الفن من أجل الفن» و«الفنون تحمل الخير للبشر» و«الفنون مكوّن أساسي للهوية الثقافية».
وتتم دراسة هذا كله عبر خمسة فصول رئيسية يحمل الأول منها عنوان: «نحو مقاربة جديدة للبحث حول الآثار الاجتماعية للفنون»، يليه فصل عن «الفساد واللهو» ثم فصل عن «تطهير النفس بالفن» حسب المفهوم اليوناني القديم، وآخر عن «الرفاهية»، وفي الختام فصل أخير تحت عنوان: «التربية والتطور الذاتي».
إن الهدف المعلن لهذا الكتاب، يحدده المؤلفان منذ مقدمته ب«المشاركة في النقاش العام» الخاص بمكانة الفنون في المجتمعات وتغذية هذا النقاش عبر إحياء تقاليد فكرية غنية عرفها الفكر الإنساني منذ عصور قديمة. ويتم التأكيد في هذا السياق أن بعض الأفكار تحوّلت إلى نوع من القناعات السائدة التي يتم اعتبارها ك«حقائق ثابتة»، هذا في الوقت الذي ينبغي فيه «تشجيع البحث عن مختلف الطرق التي يمكن للفنون أن تؤثّر فيها في البشر وفي سلوكياتهم».
ودراسة مكانة الفن وأثره الاجتماعي مرتبطة إلى حد كبير بالسياسات الثقافية للبلدان المعنية بالمسألة. وهنا يؤكد المؤلفان ضرورة «عدم الانخداع» بما تحتويه بعض الخطابات من بلاغة أحيانا. وما تخفيه هذه البلاغة من «أكاذيب» ذلك أن المهم ليس ما يقال، وما يتردد في التصريحات، ولكن ما يتم عمله في الواقع.
وتتم الإشارة هنا الى أن السياسات الثقافية تكون في أحيان كثيرة نوعا من «الأداة» التي يُراد لها أن تكون في خدمة «السياسة» بالمعنى المحدد لهذا التعبير. ذلك بعيدا عن أي نقاش جدي حول موضوع دور ووظيفة الفنون في المجتمعات. وهذا ما يضعه المؤلفان تحت خانة «الفساد» الذي يتغذى غالبا من الأحكام الإيديولوجية المسبقة القائلة غالبا ب«توظيف» الفن لحسابها.
لكن بالمقابل يتم التأكيد أن «كل عمل فني هو ابن زمنه» و«من كل حقبة ثقافية يولد فن خاص بها ولا يمكن أن يتكرر بعدها».
أما الحقبة الراهنة من تطور المجتمعات الغربية فهي تتسم ب«التعايش» القريب بين الحياة اليومية وبين عالم الفن، من موسيقى وسينما وعمارة.
وبهذا المعنى أصبح هناك تداخل كبير بين الفن والحياة الاجتماعية. وتتم الإشارة إلى أن مسيرة التداخل هذه تجد بداياتها الأساسية في المجتمعات الأوروبية منذ القرن التاسع عشر.
لكن الفنون تداخلت أيضا اليوم كثيرا مع مجال آخر من النشاطات العامّة هو ميدان التجارة. هنا يتم طرح السؤال: هل الفن ذو التطلّع التجاري يمكن اعتباره فنا بالمعنى الدقيق للكلمة؟ مثل هذا السؤال يستحق الطرح برأي المؤلفين، خاصة أن الفن «التجاري» يخضع لقانون «الطلب» وليس لعالم الإبداع. بكل الحالات يتم التأكيد أن الخوض في هذه المسألة يدخل في خانة «الاستخدام الاجتماعي» للفن، أكثر مما هو في خانة الفن نفسه.
وفي المحصلة كانت وظيفة الفن في جميع الأزمنة هي «نشر رسالة» تحمل «مفهوما» ولها «هدف». وهذا كله موجّه بالدرجة الأولى للمجتمع الذي يحتضن الفن المعني.
وهناك وظيفة أساسية أخرى للفن هي وظيفة الدعوة إلى التفكير. هكذا كان الأمر دائما منذ زمن سقراط وأفلاطون وهذا هو الأمر اليوم. وهذا أيضا ما يحاول أن يثبته مؤلفا الكتاب ويبرهنا عليه عبر «المحطات الأساسية» التي عرفتها المسيرة «التاريخية الإنسانية».
الكتاب: الأثر الاجتماعي للفنون
تأليف: اليونورا بيلفيور اوليفييه بينيت
الناشر: بلغراف مكميلان لندن 2009
الصفحات: 248 صفحة
القطع : المتوسط
ساحة النقاش