تضم مجموعة «أنظر إلى الطائر الصغير!» الصادرة أخيراً للكاتب الأميركي الراحل كيرت فونيجوت أربع عشرة قصة قصيرة لم تنشر من قبل، وهي تستمد أهميتها من أنها كتبت على وجه الدقة في الوقت الذي كان فونيجوت قد شرع خلاله في العثور على صوته الكوميدي الضاحك.

حيث نجد على امتداد صفحات المجموعة لوحات مفعمة بالدفء والحكمة والطرافة رسمها فونيجوت للحياة في أميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية.هنا سنجد أنفسنا على موعد مع أزواج لا يكفون عن الشجار، طلاب عباقرة يمرون بسنوات مرحلة الدراسة الثانوية، موظفون لا يجدون سبيلاً إلى التعايش مع الحياة في مكاتبهم وأبناء بلدات صغيرة يكافحون للتأقلم مع التقنية الآخذة في التغير ومع الحيرة الأخلاقية ومع المؤثرات التي لم يسبق لها مثيل.بين ذمتي هذا الكتاب يجد القارئ نفسه على موعد مع قصص تحمل التحذير والأمل في آن واحد، وكل منها تحمل بما تعودناه من فونيجوت من مرح ونزعة إنسانية عميقة.

في إحدى القصص تتعلم عائلة الجانب السلبي من الكشف عن أعماق أسرارها لاختراع سحري، وفي قصة أخرى يجد رجل نفسه في عالم كافكاوي من المتاعب بعد أن يصطدم بأحد زعماء العالم السفلي في شمالي مدينة نيويورك.

وفي قصة ثالثة يجد طبيب نفسي أنه قد تحول إلى «استشاري جرائم قتل» بالنسبة لمرضاه المصابين بجنون الارتياب.وبينما تعكس هذه القصص ألوان القلق المنتمية إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كان فونيجوت بارعاً في التقاطها والتعبير عنها، فإنها في الوقت نفسه تلقي الضوء على تطور أسلوبه المبكر، وهي تحظى بشكل جماعي بسمة مجردة من الزمن ومتجاوزة له تجعلها مهمة اليوم مثلما كانت عندما ألفها كاتبها. ومن المستحيل تصور تدفق أي من هذه القصص من قلم كاتب آخر، فكل منها تنتمي إليه على نحو لا تخطئه العين.

وأول ما نلاحظه عندما نقترب من هذه القصص بمزيد من التدقيق والتمحيص أنها على الرغم من أنها تلقي بعض الضوء على كتابه فونيجوت المبكرة، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى مجمل أعماله، وهي قصص قصيرة تعكس توهجاً بالحيوة في تخيلها، وفي بعض الأحيان تحمل لمحة من الخيال العلمي.

وفي قصة «حسن الظن بالناس»، على سبيل المثال، نجد مخترعاً يقوم بتصنيع اختراع، هو عبارة عن جهاز يهمس لمستخدميه بكل شيء يرغبون في سماعه، مع تركيز خاص على أسوأ رغباتهم وشكوكهم.

وتصف القصة التي منحت المجموعة عنوانها تفاعلاً في أحد المشارب بين رجل ساخط وبين «مستشار لجرائم القتل» والذي جاء بأسلوب مبتكر لقتل الناس.

ويشير سيدني أوفين، صديق عمر المؤلف، في المقدمة التي كتبها للمجموعة إلى أن من الممكن أن تكون هذه المجموعة قد ظلت طويلاً بلا نشر لأن المؤلف لم يشعر بالرضا عنها.

وهذه الاشارة في موضعها بالتأكيد، ذلك أن القصص تفتقر إلى الصقل والمرح اللذين تجدهما في أفضل القصص التي قدمها لنا خلال حياته. وعلى الرغم من ذلك فإنها تقدم لمحبي ابداعه اطلالة على عمق موهبته وآليات الابداع كما مارسها.

وتلاحظ مطبوعة «لايبراري جورنال» المتخصصة في عرضها لهذا لاكتاب أنه يضم بين ذمتيه المجموعة الثالثة من أعمال فونيجوت المبكرة، بعد «علبة سقوط باجومبو» (1999) و«العودة إلى يوم الدينونة» (2008). وتشير إلى أن معظم القصص هي طبق الأصل من الكوميديا السوداء العائدة إلى أوائل الخمسينيات، كما كان فونيجوت يكتبها، فقصة «حسن الظن بالناس» تدور حول اختراع صوتي يهمس بتعليق ساخر حول ضروب القصور لدى أصدقاء المالك الحقيقي للاختراع.

وفي قصة «الخطأ» تهمش حياة أحد الموظفين على يد سكرتيرة جريدة تأتي مما يعرف باسم «تجمع الفتيات».

وفي قصة «قاعة المرايا» يدخل تحريان في مباراة فكرية مع أحد القائمين بالتنويم المغناطيسي والذي يشتبهان في ارتكابه جريمة قتل.

وتشير المطبوعة إلى أن القصص كلها تعطي الشعور بقدمها، وقراءتها تشبه مشاهدة استعراضات تلفزيونية قديمة مصورة بالأبيض والأسود، وتبدو أميركا كما يرسمها فونيجوت مستعصية على التعرف عليها، فالتقنية متأخرة، ومعظم الشخصيات تنتمي إلى ذوي الياقات الزرقاء ولكن مع قدر من الغرابة يطغى عليها تماماً، كما في أعمال فيليب ديك التي تنتمي إلى المرحلة ذاتها، ولكن الصوت يظل من الواضح انه صوت فوينجوت، تماماً مثل الرسوم الإيضاحية التي صورها بريشته، والتي تشكل عنصراً كافياً لاستقطاب محبي أعماله.

وهكذا فإن هذه القصص المبكرة من إبداع فونيجوت إذا كانت تفتقر إلى الصقل الذي نجده في رواياته الكلاسيكية، إلا أنها تعود إلى مزيحه المؤثر إلى حد بعيد من الفكاهة السوداء والمرح.

وبدورها تشير مطبوعة «كيركوس» المتخصصة في عروض الكتب إلى أن المقدمة التي مهد بها سيدني أوفيت للمجموعة جديرة بالاهتمام حقاً، وبصفة خاصة من جانب عشاق أدب كيرت فونيجوت، حيث يصور لنا فيها فونيجوت وقد بدا قريب الشبه إلى حد كبير من الرجل الذي نعرفه من عالمه الروائي.

وهذه الكلمات من شأنها ان تفصح عن كل من جوهر الشخصية والتطلع الرأسمالي الخشن الذي يتسم به رأسمالي متواضع المستوى، ويبدو جلياً كذلك أن موهبة فونيجوت في تصوير الشخصيات التي يمكن تصديقها تعود إلى وقت جد مبكر، حيث يمكن لكل قاريء أن يعجب بلمحات عبقريته التي تتجلى هنا بكل وضوح.

وعلى الرغم من أن النقاد يميلون إلى اعتبار أن العمل ينتمي بوضوح إلى قائمة الأعمال التي يهتم بها المعجبون بفونيجوت والحريصون على اقتناء أعماله، وبالتالي ينصحون من يريد قراءة فونيجوت بأن يبدأ بقراءة رواياته الكلاسيكية، وهي نصيحة لها وجاهتها بالطبع إلا أننا نظل مع هذا العمل بين يدي عمل قصصي جميل حقاً، يحمل بصمة فونيجوت التي لا تخطئها العين والعديد من ملامح عبقريته التي لا تنسى.

الكتاب: أنظر إلى الطائر الصغير!

تأليف: كيرت فونيجوت

الناشر: راندوم هاوس نيويورك 2009

الصفحات: 272 صفحة

القطع: المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 105/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
35 تصويتات / 391 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,305