ينطلق بنا الروائي الأميركي جون غريشام في مجموعته القصصية الأولى الصادرة أخيراً تحت عنوان «مقاطعة فورد» عائداً إلى هذه المقاطعة في ولاية مسيسبي التي شكلت ساحة روايته الأولى «وقت للقتل».

ونحن نلتقي، على امتداد هذه المجموعة، حشداً من الشخصيات التي تتحدى محاولة النسيان، حيث تعود عبرها إلى مقاطعة فورد المتوهجة بالحياة الملونة لنجد أنفسنا أمام عمل مثير ومسل ومؤثر، يوضح قدرات غريشام كمبدع في إطار قالب القصة أيضاً.

في البداية، نحن على موعد مع إينيز جراني ذات المقعد المتحرك وابنيها الأكبر سناً ليون وباتش، حيث ينطلقون في رحلة برية غريبة عبر ولاية مسيسبي لزيارة أصغر الاخوة، ريموند، الذي أودع السجن أحد عشر عاماً في انتظار تنفيذ عقوبة الإعدام، وبالتالي فإن هذه الزيارة له يمكن أن تكون الزيارة الأخيرة.

في قصة أخرى، سنلتقي ماك ستافورد محامي قضايا الطلاق، العاكف على الشراب، والذي يشكو تواضع دخله، فنجده يتلقى مكالمة هاتفية أقرب إلى المعجزة منها إلى أي شيء آخر، حيث تتضمن عرضاً غير متوقع بتسوية بعض القضايا القديمة والمنسية لقاء عائد مالي يفوق ما سبق له أن رآه من مال في أي وقت، وسرعان ما ندرك أن ماك قد استشعر فجأة الضجر من القانون وسئم زوجته وحياته، وبالتالي فإنه يعد خططاً مفاجئة للهرب في نهاية المطاف.

وتستمر رحلتنا مع هذه الشخصيات المدهشة، لنلتقي مع سيدني، الهادئ، والكئيب، الذي يعمل جامعاً للبيانات لحساب شركة تأمين، والذي يشحذ مهاراته في الابتزاز على أمل أن يفلح في إسقاط بوبي كارل ليتش صاحب إمبراطورية القمار في مدينة كلانتون والمحتال الأكثر طموحاً فيها، الذي يضم سجل جرائمه سرقة زوجة سيدني.

وفي قصة أخرى ينطلق ثلاثة من أبناء ريف المقاطعة في رحلة بالسيارة إلى مدينة ممفيس للتبرع بدمهم لصديق مشترك لهم تعرض لجراحات خطيرة، غير أنهم لا يستطيعون الانطلاق بالسيارة متجاوزين حانة يعكفون فيها على الشراب، وقد بدت لهم الرحلة أطول كثيراً مما قدروا، وتصل الرحلة إلى توقف مفاجئ وحاد عندما يجدون أنفسهم في ناد لراقصات التعري في ممفيس.

وفي القصة التالية، نمضي إلى دار المرفأ الهادئ التي تعد بمثابة المحطة الأخيرة لكبار السن في مقاطعة فورد، وهي مكان حزين ومفعم بالأسى، ولا يثير الكثير من الجدل، لكن هذا كله يتغير مع قدوم جيلبرت، الذي يتنكر في هيئة مقدم للخدمات بأجر متواضع، لكنه في حقيقة الأمر مطارد بارع، يتمتع بقدرة مذهلة على اشتمام رائحة المال واقتناصه من أولئك «الكبار» الذين يتظاهر بأنه يحبهم.

ويظل من بين مخاطر التصدي للناس عبر القانون في بلدة صغيرة أنه يحتمل ذات يوم وبعد مرور وقت طويل من المحاكمة أنك ستجد نفسك وجهاً لوجه مع شخص كسبت قضية رفعتها عليه، وهكذا فإن المحامي ستانلي ويد سيلتقي، في قصة أخرى، بخصم قديم، هو رجل يتمتع بذاكرة حديدية، ومن هنا يتحول اللقاء إلى محنة عنيفة.

وتشهد قصة أخرى اهتزاز مدينة كلانتون مع انتشار شائعة مفادها أن أبناً يفتقر إلى السمعة الحميدة لإحدى العائلات البارزة في المدينة بسبيله إلى العودة إليها ليلفظ أنفاسه الأخيرة بفعل الإصابة بالإيدز، ويضرب الخوف المدينة كالإعصار مع انتشار الأقاويل حول هذا الموضوع، ولكن في لوتاون، وهو الجزء الذي يسكنه الملونون من المدينة نجد أن هذا الشاب يلتقي برفيقة روحه وهو يمر بأيامه الأخيرة في هذه الدنيا.

ومن المحقق أن الكثيرين سيتفقون مع الكاتبة بات كونروي فيما ذهبت إليه من وصف هذه المجموعة بأنها أفضل ما كتب جون جريشام على الإطلاق، وهي تبرر ما طرحته في هذا الصدد بالإشارة إلى أن جريشام يقدم رصداً لوقائع الحياة في مسيسبي في الجيل الذي أعقب وليام فوكنر وايدورا ويلتي، حيث يكتب بالدرجة نفسها من الإبداع والاتقان عن الجنوب الزراعي، الجنوب الأسود، الجنوب الحافل بتعصب البيض.

وعلى امتداد سنوات طويلة برع في استخدام النظام القانوني كأداة لإلقاء الضوء على عالم الدارات الكبيرة والعاملين في الزراعة وما بين هذين العالمين، وقد جاءت هذه القصص مفاجأة بالنسبة للكثيرين من متابعي إبداعه، حيث بدت كلها على مستوى متميز، بل ويمكن وصف ثلاث من قصص المجموعة على الأقل بأنها قصص عظيمة.

ولكن ما الذي يحاول غريشام القيام به في هذه القصص السبع؟

من المحقق أن هذا السؤال يمكن الرد عليه عند أكثر من مستوى، وأحد هذه المستويات يفرض القول إن غريشام يحاول إبداع لوحة بانورامية هائلة لمكان معقد ولسكان هذا المكان، وقد وقعوا تحت تأثير دوافع قوية إلى الادغال والابتعاد تحت وقع مشاعر الإحباط والضجر والضيق بحياة رتيبة تخلو من نبض إنساني حقيقي.

غير أننا ينبغي ألا يغيب عن ذهننا ما قاله غريشام نفسه عن هذه القصص، فهي أصلاً وليدة ملاحظات دونها ليحولها إلى روايات ذات حبكة واضحة وصارمة، ولكن غياب هذه الحبكة هو على وجه الدقة ما جعله يخرجها من عالم الرواية الذي ننتمي إليه.

ويعمل بدلاً من ذلك على تحويلها إلى قصة ذات زاوية حادة ورؤية نافدة لجانب بعينه من حياة الشخصيات، وهكذا فإن كل قصة يصل متوسط عدد صفحاتها إلى 40 صفحة، وهو ما يجعلها أقرب إلى قالب القصة الطويلة، أو «النوفيللا» منها إلى أي شيء آخر، ومن ثم فهي بمثابة تغيير يرحب به الكثير من متابعي إبداع جريشام.

وهذه الملاحظة الأخيرة جديرة بالاهتمام إذا تذكرت أن غريشام عمد على امتداد سنوات طويلة مضت إلى إصدار رواية كل عام، وعلى وجه الدقة في فبراير من كل عام، وهو ما يبدو أنه طقس آن للعالم أن يودعه، كما يشير غريشام.

ومن الطريف حقاً أن نلاحظ رده على السؤال عما دفعه إلى تأليف مجموعة قصصية، بعد كل هذا الالتزام الذي دام طويلاً بالرواية، حيث يقول في مقابلة أجريت معه «حسناً، لقد جربت كل شيء آخر، باستثناء نظم الشعر».

غير أننا نلاحظ أن غريشام في العديد من صفحات قصصه السبع هذه يحلق إلى سماء الشعر، ويجتذب القراء حتى الصفحات الأخيرة، على نحو لا فكاك منه، وتلك أبرز سمات الأدب الراقي حقاً.

وبقى، أخيراً، أن نتذكر أنه على الرغم من الشهرة الكبيرة التي يحظى بها غريشام، وأن العديد من رواياته حولت إلى أفلام ذات شهرة مدوية، إلا أن القارئ العربي لا يكاد يعرفه، ويظلك محدوداً للغاية ما ترجم إلى لغة الضاد من أعماله، وذلك على نحو لا يتناسب مع عمق الرؤية التي يقدمها للمجتمع الأميركي، وبصفة خاصة في إطار الحياة في المدن الجنوبية الصغيرة بكل ما تحفل به من تناقضات وتحولات.

الكتاب: مقاطعة فورد

تأليف: جون جريشام

الناشر: نوف نيويورك 2009

الصفحات: 320 صفحة

القطع: المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 150/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
50 تصويتات / 482 مشاهدة
نشرت فى 25 مايو 2010 بواسطة books

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

66,321