تلتقي الآراء في الأوساط الأكاديمية الأميركية على القول اليوم إن «مايكل ساندل» هو أحد أهم الفلاسفة الأميركيين المعاصرين في مجال التنظير لمسألة العدالة التي كرّس لها محاضراته في جامعة هارفارد لمدة ربع قرن تقريبا، وخصّها بالقسم الأكبر من أعماله، ومن بينها كتابه الأخير «العدالة: ما أفضل ما نفعله معها»؟

إن المؤلف يطرح بداية عدداً من الأسئلة البسيطة، إنما التي تتطلب الإجابة عنها الخوض في مفاهيم جوهرية كالمواطنة والحقيقة والأخلاق، بل والاقتصاد والسياسة. أسئلة من نوع: ما التزاماتنا حيال الآخرين كأفراد في مجتمع حر؟ وهل ينبغي استخدام الضرائب التي يدفعها الأغنياء لمساعدة الفقراء؟ والسوق القائمة على التبادل الحر، هل هي عادلة؟ هل من الخطأ قول الحقيقة أحياناً؟ وهل يمكن قبول المذابح بعض المرات أخلاقياً؟ الخ.

مثل هذه الأسئلة كان المؤلف-الأستاذ قد طرحها على طلاّبه الذين كانوا يكتظّون بالمئات في القاعات التي يلقي فيها دروسه. وهو يطرحها من جديد على قرائه في هذا الكتاب، ويدعوهم في الوقت نفسه إلى رحلة «ممتعة» معه لاكتشاف مدلولات العدالة. هذا بعيداً عن أية ذهنية حزبية أو فئوية، فالعدالة - كما يقول - هي «مسألة الجميع».

وكل المواضيع لها علاقة بها؛ من الزواج والإجهاض وصولاً إلى الخدمة العسكرية، ومرورا بمفاهيم «التمييز الإيجابي»، بمعنى إعطاء بعض الامتيازات لأقليات متنوعة من أجل تثمين دورها الاجتماعي أكثر، و«الوطنية» و«المعارضة السياسية» و«الحدود الأخلاقية للأسواق» هذه الأمور كلها يتعرّض لها المؤلف في شرحه عن العدالة، إلى جانب الكثير غيرها التي تحفل بها حياة البشر في المجتمع.

وهذا الكتاب يحمل في بعض وجوهه نوعاً من الدعوة لممارسة السياسة بشكل آخر وعلى قاعدة الالتزام بخدمة المصلحة العامة. إن المهم في رؤيته للعدالة ليس المشرب السياسي أو الإيديولوجي الذي ينتمي له البشر، ولكن بالأحرى هو استعدادهم لأن يضعوا ما يعتبرونه حقائق نهائية موضع التأمل والتفكير وطرح التساؤلات حول طرق التفكير السائدة.

أما الهدف فهو، كما يحدده، ليس ترك المعنيين وسط «جزيرة من الشكوك»، بل دفعهم إلى الإبحار نحو آفاق جديدة وبطريقة «تزداد معها حياتهم عمقا وثراءً». هذا كله، كما يؤكد المؤلف أيضا، بعيدا عن أي بحث عن «قيادة» الآخرين أو توجيههم في أي اتجاه سوى أن يمتلكوا الرغبة في التفكير الواضح بالأسئلة الكبرى المتعلقة ب«السياسة الاجتماعية» التي تحكم حياتهم اليومية وعلاقاتهم. إنه يأخذ دور الأستاذ، لكن دون ضغط الامتحان.

كما يتم التأكيد في مثل هذا السياق أنه ليس هناك إجابة وافية شافية عما إذا كان ينبغي على المواطن الأميركي أن يقوم بتسليم أخيه القاتل إلى مكتب التحقيقات الفدرالي، هناك أسباب إنسانية عديدة تتدخل، ولكن للعدالة «ضروراتها» التي لا تعرف العواطف.

ومن الواضح أن المؤلف يركّز خاصة على اعتبار أن مسائل العدالة تطرح نفسها على السياسة العامة للبلاد، ولكن أيضا على الحياة اليومية للبشر المعنيين بها. هكذا إذا كانت مسائل «وول ستريت» تخص أسواق رأس المال فإنها تخص أيضا حياة البشر العاديين، كما أن هناك علاقة ما في ما يخص الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

وبتعميم أكبر يصل المؤلف إلى القول إن هناك علاقة وثيقة بين العدالة والأخلاق. والكثير من المشاكل الخاصة بمظاهر الحياة اليومية أو بعلاقات البشر لا يمكن حلّها دون مقاربتها عبر «المشارب الأخلاقية الكبرى».

ويرى المؤلف بالمقابل أن البتّ ببعض مسائل العدالة يتطلب نوعاً من المقاربة السياسية بالضرورة. الأمر الذي يشابه في إطار الديمقراطية إجراء المداولات قبل اتخاذ القرار. لكن «المداولة» نفسها تستدعي «حجة أخلاقية» تعتمد عليها. وهذا ما يعبّر عنه المؤلف بالقول: أن يكون الفرد «مواطناً» عليه أن يكون «فيلسوفاً» أيضا.

ويعتبر المؤلف في تحليلاته أن توصّل أبناء أي مجتمع إلى «تعزيز التزامهم العام» أو مهما كانت درجة خلافاتهم الأخلاقية، يمكن أن يشكّل قاعدة أقوى، وليس أضعف، للاحترام المتبادل بينهم.

ويتم التركيز في هذا السياق على ضرورة «الحوار» على قاعدة الخلاف حتى على صعيد المبادئ والعقائد. فهذا يمكن أن يشكّل «قاعدة واعدة أكثر» بالوصول إلى مجتمع «عادل». و«الحوار» حول مختلف المواضيع وأكثرها دقة وليس تجنبّها. ذلك أن طرح المشاكل يشكل، مهما كانت المعضلة، السبيل الأفضل نحو حلّها.

هكذا يتم طرح مسألة التعارض بين ما يبدو ك«حل عملي» ولكنه يطرح «مشكلة على صعيد المبادئ». ذلك مثل النقاشات التي ثارت في الولايات المتحدة حول اللجوء إلى التعذيب في التحقيقات مع المشكوك أنهم من الإرهابيين. نائب الرئيس الأميركي السابق ديك شيني رأى أن التعذيب مبرر إذا أنقذ حياة أبرياء. وعارضه آخرون، ذلك أن المعلومات «تحت التعذيب» تفتقر دائما إلى المصداقية.

ومسألة قرار الدخول في حرب، كحرب العراق الأخيرة، تطرح أيضا مشكلة «العدالة» من زاوية أن «أبناء وبنات» الطبقات الميسورة يحظون ب«الإعفاء» من المشاركة فيها «لأسباب مختلفة» على عكس أبناء الطبقات الوسطى الشعبية. من هذه الزاوية ليست هناك عدالة في ما يتعلق ب«اقتسام التضحية» حيث إن البعض قد يموتون في سبيل الآخرين.

والعدالة تكون هكذا «ذاتية» وليست «موضوعية». إن العدالة «ليست في توزيع الأشياء بطريقة جيدة فحسب، ولكن أيضا هي طريقة جيدة في تقييم الأشياء»، كما نقرأ.

وعبر الكثير من الحكايات والأمثلة من واقع الحياة اليومية للأميركيين والسياسات العليا لأصحاب القرار يحاول المؤلف أن يبيّن كيف أن النقاش العام المعاصر يمكنه أن يتعمّق ويزداد ثراء بواسطة بعض الأفكار الكبرى للفلسفة السياسية.

الكتاب: العدالة: ما أفضل ما نفعل معها؟»

تأليف: مايكل ج. ساندل

الناشر: فرّار وستروس وجيرو نيويورك 2009

الصفحات: 420 صفحة

القطع : المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 97/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
33 تصويتات / 597 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,296