عرف الروائي البريطاني مارتن ايمس تقليديا بأنه روائي ساخر على قدر كبير من البراعة، واشتهر مؤخراً بمجموعة من الآراء المثيرة للجدل علي الصعيدين السياسي والاجتماعي.
وقبيل صدور روايته الثانية عشرة بعنوان «الأرملة الحامل» تساءل الكثيرون عما إذا كان واحداً من أفضل من استخدموا القالب الروائي في الإبداع الأدبي فقد لمسته السحرية وتوقف عن إضافة المزيد إلى رصيده كروائي، حيث إنه لم يقدم رواية واحدة منذ اثنى عشرة عاماً.
قدمت رواية «الأرملة الحامل» رداً صارخاً على هذا التساؤل، وهو: لا. فعلى امتداد الصفحات الخمسمئة التي تضمها هذه الرواية يعود ايمس إلى أرضه الروائية الساخرة التي تستمد عناصرها بقوة من السيرة الذاتية. ويمضي باحثاً عن تأثيرات الثورة الجنسية التي شهدتها الستينات والسبعينات في الغرب على الرجال والنساء وطبيعة العلاقات بين الجنسين، وبصفة خاصة هذه التأثيرات كما تنعكس على مجموعة محددة من الشبان الذين يمضون عطلتهم الصيفية معاً في قلعة إيطالية في صيف 1970، في وقت مضت الفتيات يتصرفن وكأنهن فتية.نتابع، في الرواية، بصفة خاصة كيث الشاب العشريني الذي تخرج لتوه حاصلاً على درجة علمية في الأدب الانجليزي مع طموحات كبيرة إلى أن يصبح ناقداً أدبياً، وهو يمضي الصيف بصحبة شقراوين، هما صديقته ليلى وصديقتها شهرزاد إلى جانب مجموعة من الشخصيات التي تبدو هامشية.
تبدو ليلى، صديقة كيث شخصية محتملة، أما شهرزاد، صديقتها المقربة، فقد تحولت مؤخراً من شخصية جادة ونشطة إلى فتاة ذات رؤية تواكب العصر، وتتنبأ ليلى في كآبة بأن كيث سرعان ما يقع في حب شهرزاد. وفي غضون ذلك تتوق هذه الأخيرة على نحو متزايد إلى اكتشاف قدراتها وتجريبها.
وتضم مجموعة الشخصيات التي تمضي الصيف في القلعة أدريانو خطيب شهرزاد، وجلوريا التي تنافس شهرزاد في تألقها، بالإضافة إلى وايتكر صديق كيث، فضلا عن شاب عربي يدعى أمين، وتتوالى على كيث الرسائل التي تحدثه عن أخته فايوليت، والتي تتضمن الإشارة إلى أنها تتصرف كما لو كانت فتى سيئاً للغاية.
ويعاني كيث من صدمة عاطفية تترك بصمتها بقوة على بقية حياته، ولكن الشخصيات جميعها تتأثر بدرجة أو بأخرى بهذا النظام الاجتماعي الجديد، ونرصد تحول كيث من فتى يمكن أن يقع في الحب إلى رجل يتناغم مع عصره، الذي شهد انقطاعاً رهيباً بين الحياة الجنسية والشعور.
ويمضي كيث في التأمل: «طرحت الرواية الانجليزية، على الأقل في قرنيها الأولين أو قرونها الثلاثة الأولى سؤالاً واحداً: هل ستسقط في الغرام؟ هل ستسقط في الغرام هذه المرأة».
وبالمقابل فإن رواية «الأرملة الحامل» تطرح باستلهام روح الثورة التي تستمد منها مادتها سؤالاً جوهرياً، وهو ليس «هل يقع هذا الرجل في الغرام؟» وإنما «كيف سيقع هذا الرجل في الغرام؟».
ومن المؤكد أن هناك الكثير من الجوانب والعناصر التي سيستمتع بها قارئ رواية «الأرملة الحامل»، فهناك الشخصيات المرسومة ببراعة لافتة للنظر، وهناك التوظيف المدهش للسخرية الاجتماعية، ولابد من التوقف طويلاً عن الانعطافات المفاجئة للحبكة، إضافة إلى التأملات اللماحة في السياسة والأدب والكثير مما يتعين التفكير فيه مع تقليب الصفحات الأخيرة للرواية.
ومن المحقق أن هذا كله يصب في تأكيد أن ايمس الروائي قد عاد بقوة إلى ساحته التي غاب عنها طويلاً.
غير أن كل الإشادة التي توجت عروض هذه الرواية في العديد من صحف العالم لا ينبغي أن تحجب عنا العيوب التي تشوبها، والتي ربما شكلت نوعاً من خيبة الأمل لعشاق ايمس الذين انتظروا روايته هذه على امتداد السنوات السبع التي استغرقها في انجازها.
ربما كان أول هذه العيوب انطلاق ايمس في رحاب التأملات الفلسفية أحياناً، الأمر الذي يجعله يخرج عن روح الرواية إلى ما يشبه المادة الصحافية المضجرة، التي لا علاقة لها حقاً بالإبداع الأدبي الحقيقي، دعنا نقرأ على سبيل المثال قول ايمس في الرواية: «ربما كانت الأربعينات هي عقد نحن الأخير، وكانت كل العقود حتى 1970 على نحو لا سبيل إلى نكرانه عقود هو.
وكذلك كان عقدي هو عقدي، هذا صحيح بما فيه الكفاية.. ولكن عقدي كان أيضاً على نحو لا سبيل إلى التساؤل بشأنه هو عقدها».
والعيب الثاني، الذي يبدو بارزا على نحو لا سبيل إلى تجاهله هو بطء السرد وافتقاره إلى الوضوح بفعل عدم استعداد ايمس لقول أي شيء بطريقة بسيطة ومباشرة.
وهناك حشد هائل من الجمل المنسقة على نحو مكثف التي تحمل المرء على التساؤل: ماذا كان يمكن أن يكون ايمس من غيرها؟ ومع ذلك فإنها تبدأ في الظهور بمظهر كلاب السيرك التي تكرر الحيل التي تعلمتها، وهي تبدو من الكثرة والتعدد بحيث أنك يتعين عليك أن تزيح تلاعباتها لكي ترى حقيقة ما يحدث.
والعيب الثالث في الرواية يبدو في أن السحر كثيراً ما ينقلب على الساحر، فهو يبدو لنا وكأنه يريد لأحداثه أن تكون معقدة، يريد لشخصياته أن تكون شخصيات وليس كائنات تتدفق بالحياة والحركة.
العيب الرابع يبدو جلياً في إسقاط ايمس لبعض آرائه على شخصياته، فالشخصيات في الرواية تميل إلى الحديث عن العنف والإرهاب على نحو يتجاوز بكثير ما كان مألوفاً في المرحلة التي تجرى فيها أحداث العمل، وشخصية العربي أمين لا تبدو لنا شخصية حية ومتحركة، بقدر ما تبدو لنا تجسيداً لآراء مثيرة للجدل والخلاف سبق أن طرحها ايمس في سياق غير روائي وأثارت ضجة كبرى في حينها.
وربما كان العيب الأكثر بروزا في الرواية هو نهايتها، وهنا ينبغي أن نتذكر الحقيقة القائلة إن ايمس لم يعرف تقليدياً ببراعته في صياغة نهايات رواياته و«الأرملة الحبلى» ليست استثناء من هذه القاعدة.
وعلى الرغم من هذا كله، فإننا نظل أمام عمل يستحق عناء انتظاره طوال كل هذه السنوات، ويبقى مؤلفه الكاتب البريطاني الأكثر إثارة للجدل والنقاش.
ومن المؤكد أنه ليس من قبيل الصدفة أن تصفه صحيفة «تايمز» اللندنية بأنه «ربما كان الكاتب الأكثر تحققاً في عصرنا». وهذا هو على وجه الدقة ما دفع صحيفة «ديلي ميل» إلى القول: «ما من أحد يمكنه أن يمسك شمعة لمارتن ايمس» في إشارة إلى تألق الكاتب البريطاني الأكثر شهرة. بقي أن نذكر، أخيراً، بأن مارتن ايمس، على الرغم من شهرته المدوية، وأن العديد من أعماله نقلت إلى الشاشتين الفضية والصغيرة إلا أنه ظل حتى الآن بعيداً عن اهتمامات المترجمين والناشرين العرب، حيث لا يكاد يجد القارئ بالعربية شيئاً مترجماً إلى لغته من أعمال ايمس، بل ان آراءه المثيرة للجدل المتعلقة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تجد من ينقلها إلى العربية ويبادر بالرد المنطقي عليها، في سجال من المؤكد أن له أهميته وضرورته.
الكتاب: الأرملة الحامل
تأليف: مارتن ايمس
الناشر: جوناثان كيب لندن 2010
الصفحات: 470 صفحة
القطع: المتوسط
ساحة النقاش