يرصد هذا الكتاب "عودة تركيا إلى الشرق" طبيعة التحولات البنيوية الفكرية في المجتمع التركي، وما عكسه ذلك من تأثيرات وتغييرات عملية، تجسدت في صيغ مواقف وسياسيات خارجية، منذ تسعينات القرن الماضي، وضح فيها توجه سياسي ذكي لتركيا، اختارت معه العودة إلى محيطها الإسلامي.
وتفعيل أطر التقارب مع العالم العربي والإسلامي، فأخذت في مناصرة القضايا العربية، وشجب سياسات إسرائيل، مركزة، في سياق صوغها لنهج جيوسياسي وثقافي جديد، محكم الدراسة، على تبني رؤى نافذة، تستطيع من خلالها إحكام أشكال سيطرتها وحضورها القوي في مجال بعدها الاستراتيجي، ضمن المنطقة، وفي آسيا، والعالم أجمع.
يبين الكاتب ميشال نوفل، في كتابه «عودة تركيا إلى الشرق»، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون-بيروت 2010، أن أهمية موضوع بحثه هذا تتبدى من كون تركيا صارت منذ مطلع العام 1992، بمثابة القطب الجاذب في مجال جيوسياسي واسع، يمتد من البلقان غرباً إلى حدود الصين شرقاً، فاكتسبت سياستها الخارجية أبعاداً جديدة، باتت تفرض على أنقرة التصرف كقاطرة لدفع الجمهوريات التركية المستقلة حديثاً، إلى حضن النظام العالمي.
ويشرح نوفل في هذا السياق أنه كان لزاما على تركيا، أن تطوِّر وتعدِّل توجهات سياستها الخارجية على وقع ديناميات البيئة العالمية المتحوِّلة، عقب أفول الحرب الباردة، خصوصاً أنَّ عدم تبلور نظام عالمي جديد تتفرَّع عنه نظم إقليمية متنوعة، تسبَّبَ في تهديدات أمنية جدية لتركيا في المحيط الجيوسياسي، الذي يشمل الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز. ولذا عملت المؤسَّسة الحاكمة في تركيا على صوغ مقاربة «جيوثقافية»، تجعل تاريخها الإمبراطوري العثماني يكتسي من ميزات موقعها الجيوسياسي المحوري، ليملك رصيداً إيجابياً في مرحلة إعادة بناء النظرية السياسية للدولة.
ويحلل الباحث نوفل واقع ومدلولات التوجهات والخطط الجديدة لتركيا، في ظل هذا الواقع، ليفيدنا بأنه هو عمليا، ما دفع القيادة السياسية فيها، وبعد منعطف 30 حزيران 1، 986، إلى تكريس التوليف (التركي- الإسلامي) كسياسةً رسمية في مجال «الثقافة الوطنية»، لترفع شأن التجربة العثمانية، وتضع الأسس لإرادة تأكيد تركيا كقوَّة إقليمية كبرى بعد انقلاب الأوضاع في محيطها الجيوسياسي، تفجر يوغسلافيا، تفكك الاتحاد السوفيتي، التقلبات في القوقاز، حرب الخليج. الأمر الذي دفعها إلى أن ترفض التعاون مع أميركا، تمهيداً لغزو العراق عام 2003، حيث كشفت عن اتجاهاتها في السياسة الخارجية، استناداً إلى نظرية «العمق الاستراتيجي»، والتي وضعها د- أحمد داوود أوغلو، منذ تسلم حزب العدالة والتنمية زمام السلطة في تشرين الثاني 2002.
وحسب نوفل، فإن رؤية «العثمانية الجديدة» تفرض على حزب العدالة والتنمية، كونها تنهل من مقاربة الرئيس التركي الراحل(تورغوت أوزال)، استحضار إرث «القوة العظمى» العثماني، وإعادة تعريف مصالح البلاد القومية والإستراتيجية، وهو ما يقود ـ برأيه- إلى ضرورة النظر لتركيا، بصفتها قوَّة إقليمية كبرى، تتحرَّك دبلوماسيتها النشطة في اتجاهات عدَّة، محورها الانخراط المتزايد في شؤون الشرق الأوسط على قاعدة التقارب مع العرب والمسلمين.
ويفسر الباحث نوفل حقيقة تمخض تفكُّك الاتحاد السوفيتي عن نتيجة في غاية الأهمية، بالنسبة إلى الدولة والمجتمع في تركيا، وهي ظهور الجمهوريات المستقلة في آسيا الوسطى، والتي كان اسمها في السابق (الجمهوريات الناطقة التركية)، ومن هذا المنظار يمكن القول إنَّ تطوُّر القاموس السياسي، يعكس انقلاباً في المفاهيم السائدة، وتحديداً مفهوم «الجامعة التركية» الذي يعبِّر عن واقع ملموس لكتلة متجانسة نسبياً، تضم إضافة إلى تركيا، خمس جمهوريات تركية مستقلة: تركمانستان، أوزبكستان، قرقيزستان، كازاخستان، أذربيجان، علاوة على تكثيف اطر ومساقات العناية الدقيقة المدروسة في معالجة القضية الكردية بحنكة وحكمة، تتعايش مع تفاعلاتها برزانة وذكاء، في انتظار تسوية معينة، ترتبط بعملية ترتيب خريطة الشرق الأوسط من جديد.
ويؤكد نوفل، في شأن العلاقات التركية العربية، على أن إعادة أسلمة المجتمع، والتي شهدت حركة دفع كبيرة خلال الثمانينيات من القرن الماضي، أفضت تدريجياً إلى المصالحة مع العرب، إثر تدهور مستمر للعلاقات التركية- العربية منذ 1916.
وكذا صدمة الافتراق بين الجماعتين التركية والعربية، فكان للتوليف الثقافي التركي ـ الإسلامي، دور أساسي في إعادة صوغ الهوية التركية وإدراك الأبعاد الجيوسياسية للانتماء الديني الواحد والتاريخ المشترك، إذ ساعد هذا في إطلاق صيغة حيوية للتقاربٍ مع العرب، أسفرت عن تلاقحٍ أكبر في حقل الأفكار والتصورات والسلوكيات، وحالت دون استمرار الصور السلبية المتبادلة.
ومن ثم أزالت الشكوك المتبادلة حول النيَّات الحقيقية لكل طرف، لتتلاشى، وفق هذا المنظور، صورة التركي المشوِّه للإسلام والمفرِّط بالتضامن الإسلامي، والمضخمة والمصقولة بتأثير تنمية الإستشراق الغربي لها، وطبعا يضاف إلى ذلك، تبنَّي بعض القوميين العرب لصورة التركي الملتزم في الدفاع عن الإسلام ورد العدوان عن الديار الإسلامية المقدَّسة، خصوصاً الحرم القدسي الشريف، لا بل إنه ومنذ مطلع العام 2000، دخلت العلاقات التركية-الإسرائيلية، إجمالاَ، مرحلة اتَّسمت بالفتور.
وكان السبب الرئيسي في هذا ردَّة فعل الجمهور التركي إزاء استخدام إسرائيل القوَّة المسلَّحة المفرطة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، وينوه الباحث بالتصعيد الذي قام به رجب طيب أردوغان تجاه إسرائيل وممارساتها المتوضعة كسإرهاب الدولةس ضد الفلسطينيين، إذ تقاطع هذا الموقف مع مشاعر الغضب لدى الجمهور التركي الواسع، ويشرح نوفل انه بالنسبة للعلاقات التركية الإيرانية، فإنَّ تركيا تعمل على تطوير نهج مستقل في مقاربة الجار الإسلامي الكبير، والحفاظ على روابط ثنائية مستقرة ومتوازنة وعادلة مع إيران، تنسجم في إطار موضوعي وعادل.
ويفرد الكاتب بحثا وافيا ومفصلا لموضوع العلاقات التركية السورية، يدلل معه على أنَّ تطبيع العلاقات مع سوريا وتحويلها في اتجاه التعاون والتنسيق في القضايا، لم تقتصر على إحياء السلام مع إسرائيل، وهو يعتبر من النجاحات الدبلوماسية الكبيرة لحكومة أردوغان، حتى أنه تعداها إلى درجة ومرحلة الهموم الأمنية المشتركة، مثل احتمال ظهور دولة كردية مستقلة، و ـ برأي نوفل ـ فإنه يبدو بوضوح، أنَّ تركيا لا تريد التفريط بعلاقة إستراتيجية تعدر مدخلاً طبيعياً لها إلى العالم العربي.
بينما المؤسَّسة الكمالية تريدها لأسباب تتعلَّق بالأمن والمصلحة المشتركة في التعامل مع الحركة الكردية في شمال العراق، كما أنَّ الحكومة ـ ما بعد الإسلامية ـ التي باتت تمثل مركز القوَّة في تركيا، ترمي إلى أشياء أضخم وأوسع، بحكم أسباب معقَّدة تتعلَّق بهيبة تركيا ومكانتها كقوَّة إقليمية صاعدة في الشرق الأوسط، ما يملي ضرورة التموضع في المحيط الجيوسياسي، إزاء الصعوبات والخيبة التي تكتنف عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
الكتاب: عودة تركيا إلى الشرق
تأليف: ميشال نوفل
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2010
الصفحات: 151 صفحة
القطع: المتوسط
ساحة النقاش