ترافقت العولمة مع مقولة أن المعمورة بدولها وشعوبها أصبحت مثل «قرية كونية» صغيرة، وجرى الحديث عن ضرورة الوصول إلى نوع من «الحكومة العالمية» في ظل تلاشي الحدود والمسافات. لكن مثل هذه المقولة وجدت ما يدفع بالواقع في الاتجاه الآخر، حيث برزت مسألة القوميات والهويات الوطنية من جديد.

وهذا لم يحدث على مستوى الأقليات أو البلدان الصغيرة، ولكن على مستوى بلدان عريقة مثل فرنسا وبلدان قوية مثل الولايات المتحدة الأميركية، كما يؤكد كتاب الأستاذة الجامعية «اليزابت تايس- مورس» الصادر عن جامعة كمبردج تحت عنوان يقول:«من يُعتبر أمريكياً»؟ وبعنوان فرعي يفصح بوضوح عن مضمونه وهو: «حدود الهوية الوطنية». وبعد أن تناقش المؤلفة مسألة «الهوية الوطنية» في سياقها التاريخي والنظري «المفاهيمي» تطرح السؤالين التاليين: لماذا تشكل الهوية الوطنية قوة فاعلة في حياة البشر؟ وهذه القوة التي تمثلها الهوية الوطنية، هل هي سلبية أم إيجابية؟

إن المؤلفة، وفي محاولة الإجابة عن هذين السؤالين، تطوّر نوعا من «النظرية الاجتماعية» للهوية الوطنية. لكن بنفس الوقت تبحث عن «تطبيقات» هذه النظرية في السياق الأميركي، ودائما في منظور الإجابة عن السؤالين الجوهريين اللذين تنطلق باستمرار من محاولة الإجابة عنهما.

وإذا كان يتم التأكيد على أن مختلف مكونات المجتمع الأميركي وتنوعاته الاثنية، باعتبار أن الولايات المتحدة هي أرض الهجرة والمهاجرين بامتياز، تحرص على المحافظة على درجة عالية من «الوفاء» حيال الأميركيين الآخرين، وبهذا المعنى ليس لتأثير الخصوصيات «على قاعدة الهوية» تأثير كبير على الانتماء «الوطني» الأميركي العام.لكن هذا لا ينفي واقع دفع مجموعات كبيرة نحو المحيط، ومطلوب منها بنفس الوقت «الولاء» حيال المجموعات القوية التي تملك الجزء الأساسي من القرار المالي الاقتصادي في البلاد.

إن المؤلفة تناقش على مدى الفصول الستة التي يتألف منها الكتاب، مسألة الهوية الوطنية على أساس العلاقة بين «الإخلاص» و«الالتزام الوطني». وهذا ما يبدو بوضوح من عناوين هذه الفصول التي تبدأ بالبحث عن «الحاجة إلى نظرية اجتماعية للهوية الوطنية» وتنتهي بالسؤال الذي طرحته المؤلفة بداية وجعلته عنوانا لصفحاتها الأخيرة وهو: «هل الهوية الوطنية حسنة أم سيئة»؟ الفصول الأخرى من الكتاب تحمل عناوين:

«الالتزام بالمجموعة الوطنية» و«تسوية مسألة الحدود الوطنية للمجموعة» و«الإخلاص في مواجهة النقد» و«الرغبة في مساعدة المجموعة الوطنية». ومن المسائل التي تركز المؤلفة على دراستها في جميع فصول الكتاب، وبأشكال مختلفة، العلاقة بين «حس المواطنة»، أي الانتماء الوطني العام وبين «النزعة القومية»، أي مشاعر الانتماء إلى مجموعات «قومية» خاصة.

ويتم من خلال هذا التأكيد على «الطبيعة الاجتماعية للهوية الوطنية الأميركية» وحيث إن «الأكثر قوة» يبدو أنه «أكثر أميركية» بينما يتم طرح نوع من التساؤلات حيال «الأفراد» الذين يكون موقعهم على «محيط الحدود الوطنية» لهذه الهوية.

ومثل هذا التمييز يعكس، كما تدل التحليلات، حالة النقاشات الدائرة في أميركا منذ فترة طويلة حول مسائل «المواطنة الأصلية» و«نقاط الارتكاز الوطني»، وليس غريبا عن هذا السياق أيضا النقاش حول ما عُرف ب«ميثاق المواطنة» والذي يحاول أن يجيب عن السؤال الذي طرحه عنوان الكتاب أي «من يُعتبر أميركيا»؟

وحول مفهوم الهوية الوطنية تتركز أيضا التوترات بين «الحاجة لدى الأميركيين لتثبيت مفهوم الأمة وهويتها الوطنية الجامعة»، وبين «ضرورة إعطاء أهمية أكبر لواقع التنوع الذي تتمتع به البلاد». وبهذا المعنى يقدّم هذا الكتاب نوعا من «التشخيص» لمدى تلاحم المجتمع الأميركي على قاعدة مفهوم تواجه هذا التلاحم، وليس أقلها تزايد أعداد الناطقين باللغة الاسبانية القادمين من المكسيك وغيرها من دول أميركا اللاتينية الأخرى القريبة.

وتحدد المؤلفة عددا آخر من عوامل «التوتر» الذي يعاني منه المجتمع الأميركي بسبب الأسئلة الكثيرة التي يطرحها على نفسه في الحقبة الراهنة. وفي مقدمة هذه العوامل تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وما تركته من آثار على المجتمع الأميركي، ثم كارثة «إعصار كاترينا» الذي أظهر هشاشة كبيرة في البناء الاجتماعي الأميركي، وعامل توتر ثالث خطير تمثله حرب العراق منذ ربيع عام 2003.
وعلى سؤال «من يمثل أكثر الشخصية الأميركية»؟ الذي جرى طرحه على الكثيرين كانت الإجابات الغالبة هي: المسيحيون والبيض وأصحاب النزعات الفردية. أما أكثر المجموعات تهميشا فقد حددتها الإجابات ب«السود». والمؤلفة لا تكتفي بهذه «الكليشيهات» التبسيطية، لكنها تريد بوضوح إثارة نقاش أعمق حول مفاهيم البيوت الوطنية وآثارها على المجتمع الأميركي، وخاصة الآثار السياسية لواقع تنوّع هذا المجتمع.


الكتاب: من يُعتبر أمريكيا؟

تأليف: اليزابيت تايس مورس

الناشر: جامعة كمبردج

لندن2009

الصفحات: 240 صفحة

القطع: المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 166/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
56 تصويتات / 515 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,300