بدأ كارلوس ليسكانو، أحد أشهر كتاب الأورجواي وأميركا اللاتينية عموما، الكتابة في السجن حيث قدّم العديد من الروايات والأعمال المسرحية والمجموعات الشعرية. لكنه اليوم يمارس كتابة الدراسة عبر كتابه الذي يحمل عنوان: «الكاتب والآخر».
موضوع هذا الكتاب هو «الكتابة» أو بدقّة أكثر «استحالة الكتابة». وما يقدّمه المؤلف من أفكار هو مزيج من الحديث عن تجربته الخاصة، عن معاناته، ومن محاولة تفسير آليات الكتابة الإبداعية. ويشير إلى أن البداية في مشروع هذا العمل كانت حالة «العطالة» التي واجهها ككاتب.
بدأ قبل أكثر من عام من الزمن مشروع كتابة عمل روائي ولكنه وجد نفسه في حالة عجز كامل عن الذهاب في المشروع إلى نهايته. لقد خانته مخيلته رغم محاولاته العديدة والتعديل والتبديل والشطب والتصحيح «بلا فائدة». هربت منه الكلمات وهي التي كانت تأتيه دون عناء، لقد «غابت فجأة» أمام «شلل المخيلة» الذي أصابه. ودفعه يأسه إلى قناعة مفادها أن «الكاتب هو عملية اختراع» والكتابة هي «البحث عمّا لا يمكن إيجاده».
لكن ماذا يبقى للكاتب في هذه الحالة؟ «الليالي الطويلة دون أن يغمض له جفن». ويبقى أيضا «النهر الهادئ» و«شوارع مدينة مونتوفيديو تحت المطر» حيث يعيش المؤلف اليوم. أي يبقى ما يستحق «تقريبا» أن يعيش الإنسان ـ الكاتب.
في مثل هذه الحالة يغدو الكاتب «الذي كان» هو «الآخر»، الذي كان قد «أبدعه» عندما كان في السجن والذي يحاول أن «يستخدمه» اليوم وهو الذي كان قد ساعده كي يتحمل قساوة السجن.
ومن خلال مطالعاته في مكتبة ذلك السجن تولّدت لديه رغبة الكتابة ل«النجاة من الجنون» ولمحاولة «السيطرة» على الأفكار السوداء التي كانت تنتابه. وهو يكتب في مقدمة «الكاتب والآخر» ما مفاده: «هكذا جرت الأمور. لقد فهمت ذات يوم بنهاية عام 1980 أو مطلع عام 1981 أنني كنت كاتبا. ليس أنني سأصبح كاتبا ولكن كنت كاتبا».
إن المؤلف يقدّم واقعيا في هذا العمل ملامح سيرته الذاتية. وخاصة تجربة «الإبداع» التي عاشها خلال تجربة السجن حيث استيقظ الآخر «الكاتب» في أعماقه ثم نضوب الإبداع و«خفوت جذوة زمن البراءة الأدبية» يوم اكتسب حريته حيث وجد نفسه «مسؤولا» عن ذلك «الآخر» الذي انبثق من أعماقه. نقرأ: «يعتريني الإحساس أنني قمت ببناء شخصية هي شخصية كاتب، وأعرف أنه وراء هذه الشخصية لا يوجد شيء».
إن هذا الكتاب يحتوي على عدد كبير من الصفحات التي يحكي فيها المؤلف بكثير من الحزن والمرارة واقع معاناته ومدى عمق وضخامة المشاكل التي تطرحها عليه الكتابة. ويقول عن مواجهته لاستحالة الإبداع: «إن حياتي اليوم هي درب طويل من العزلة وغياب الإنتاج والشكوك».
وتتعاظم حدة هذه الأحاسيس «المضنية» كلها مع قناعة صاحبها أنه لا يستطيع العيش دون الكتابة ؟ ذلك على مبدأ أنها الخمم والحكم بالوقت نفسه ـ مع تعريفه لنفسه أنه «فنان صغير» بالقياس إلى عمالقة الأدب.
و«ماذا بقي لي»؟ يتساءل، قبل أن يطالب الجميع خاصة ب«عدم الشفقة». ويطالب نفسه ب«جلاء البصيرة» وامتلاك قوة «البقاء مترصدا» في حالة الانتظار التي يعيشها وتجعله يمضي ليالي بيضاء طويلة.
إن مسألة رفض «رفاهية النجاح» والتساؤل حول الذات والمثابرة على امتلاك قدرة المقاومة، لا تنتمي أبدا إلى صفة التواضع لديه ولكن بالأحرى تشكل برهانا على أنه بقي مقاوما في أعماقه وأنه قادر على القيام بخيارات في الحياة والمحافظة على قناعاته العميقة.
الكتابة كانت ملجأ و«لقاحا شافيا» ضد ظلام السجن. إن «الكاتب» هو الذي أنقذ «الرجل» آنذاك، «الكاتب والآخر». هكذا أصبحت العلاقة «بينهما» مسألة «كينونة» و«وجود».
«لقد اكتشفت أن الأدب كان مركز حياتي»،يقول. بهذا المعنى أصبح الأدب والحياة في حالة توحيد عضوي، وبالتالي غدت استحالة الكتابة عنوانا لاستحالة العيش. والصفحات التي بقيت «بيضاء» أمام ليسكانو رغم كل ما بذله من جهود في «تسويدها» بما تجود مخليته كانت مصدر عذاب قاهر له.
وهذا كله على خلفية قناعته أن «حريته» داخل السجن وخارجه لا وجود لها بدون الكتابة، وعلى الأقل يرى المؤلف أن الحرية الوحيدة «الممكنة» قد تكون مرتبطة مع الكتابة. وبهذا المعنى يمكن القول أن هذا كتاب عن «الكتابة» وعبرها عن سيرة حياة كارلوس ليسكانو الذي يواجه «مأزق» عدم القدرة على «الإبداع» الأدبي.
لكن هذا المأزق شكّل بالوقت نفسه «مدخلا» للعودة إلى سن الشباب أمام الجمهور بشخصية الكاتب و«الدور الذي يلعبه» عندما يمثّل أمام الجمهور شخصية الكاتب.
إن هذا الكتاب يتألف من «89» فصلا قصيرا يكمن الخط الناظم بينها كلها في تقديم الكاتب لمعاناته «بلا رتوس»، ولما يعيشه من تمزّق ومن شكوك على خلفية إدراكه «حدوده» وما يترتب على هذا من اعتراف بعدم القدرة على الكتابة، ولكن أيضا ما يترتب عليه من «قلق» أمام هذه الفكرة. لكن رغم هذه الاعترافات كلها عرف كارلوس أن يصوغ من «استحالة الكتابة» كتابا عنها وعن حياة المؤلف وعن الفن.
وفي المحصلة يتولد لدى قراءة هذا الكتاب الإحساس أننا أمام رواية عن الجرأة في قول الحقيقة «بلا خجل» وعن الإبداع والإلهام والقلق أمام العجز عن ممارسة ما نحب وعن الغياب وهذا كله بالنسبة لإنسان كانت الكتابة هي خلاصة وسلاح مقاومته أمام التعذيب والسجن.
لكن عندما أطلقوا السجين السياسي يبدو أن «الكاتب» الذي تفجّر بداخله بقي وراء القضبان.
الكتاب: الكاتب والآخر
تأليف: كارلوس ليسكانو
الناشر: بلفوند باريس 2010
الصفحات: 190 صفحة
القطع : المتوسط
ساحة النقاش