صدر مؤخرا كتاب "يا عيني يا مصر.. رؤية ساخرة" للطبيب نبيل فاروق كاتب المغامرات الشهير الذي أنهى سلسلته الأشهر "رجل المستحيل" ليبدأ في خوض تجربة جديدة في عالم الكتابة الساخرة.
يقع الكتاب الصادر عن دار دوّن في 21 صفحة من القطع الصغير، ويأتي في ثلاثة فصول بعناوين "تجربة بيروقراطستان، المأزق، يا عيني يا مصر".
في الفصل الأول يكتب د. فاروق عن تجربة شخصية مر بها توضح مدى البيروقراطية التي تمر بها البلاد، واصفا حزبها الحاكم بأنه "حزب الأقوال الكبيرة والأفعال الأقل من الصغيرة. والذي نشر في البلاد فسادا لم تر مثله. ربما في تاريخها كله؛ لأنه فساد من نوع خاص، لا يبالي بردود الأفعال ولا يلتفت للانتقادات أو حتى الصرخات، ويمضي في غيه بكل بلطجة، متسلحا بقوات أمن يفوق عددها وتعدادها دولا أخرى أكثر تطورا وتأثيرا في السياسة العالمية".
كانت التجربة التي مر بها المؤلف هي انهيار كليتيه والذي يؤدي إلى الفشل الكلوي في النهاية، وبالتالي عليه أن يختار بين شيئين لا ثالث لهما إما الخضوع لجلسات غسيل كلوي منتظمة أو أن يجري جراحة زرع كلى.. وقد اختار الخيار الثاني لتبدأ تجربته التي قرر أن يكتب عنها بعد انتهائها.

أهل الذكر

يقول د. فاروق: "في العالم كله تعتبر زراعة الأعضاء أمر علمي بحت، ولكن في عالمنا العربي وفي مصرنا البائسة، تحول العلم بقدرة قادر إلى مسألة فقهية وشرعية، وراح الشيوخ والعلماء الأفاضل الذين هم حجة في مجالهم ولا يفقهون شيئا في العلم والطب، يفتون في أمر، أمرنا الدين نفسه بأن نسأل عنه أهل الذكر إن كنا لا نعلم، وأنا أتحدى أن يعلن فقيه واحد مهما بلغت مكانته، أنه يعلم ما يعلمه العلماء والأطباء، حتى لو ادعى أنه قرأ كتابا أو كتابين أو حتى مرجعا كاملا في الطب؛ فالعقل والمنطق يؤكدان أنه من يعمل ويدرس أكثر، يفهم أكثر في مجاله.
وكلنا نعلم هذه الحقيقة ونثق فيها، فلا أحد يستأجر طبيبا لبناء منزله لمجرد انه قرأ مرجعا في الهندسة، ولا أحد يجرؤ على علاج ابنه لدى مهندس شهير فقط لأنه يقرأ كثيرا في الطب، بل وحتى في المهن لا نستأجر سباكا لإصلاح الكهرباء ولا نجارا لتسليك المواسير.
كلنا إذن ندرك هذا ولكننا نصل إلى منطقة الدين، فيختل منطقنا وتهتز قناعاتنا ونرتبك وننكمش ونخشى مجرد إبداء الرأي، بل ولا نحاول سؤال أهل الذكر الذين ليسوا الفقهاء أو الشيوخ أو الدعاة حتما، بل العلماء والأطباء الذين عليهم إجابة سؤال واحد بسيط أهذا نافع ام مضر؛ حتى يمكن تطبيق القاعدة الأبسط التي تؤكد أن كل ما ينفع الأمة حلال وكل ما يضرها حرام".
يتحدث الكتاب عن الصعوبات البالغة التي يواجهها المريض في سبيل الحصول علي متبرع تتوافق أنسجته مع أنسجة المريض، والمبالغ الطائلة التي يحتاجها في هذه الحالة، مرورا بسماسرة المتبرعين الذين يتاجرون في بشر ممصوصين حفر البؤس ملامحه عليهم يتمنون بيع أعضائهم ليخرجوا من قاع الفقر إلى فقر أقل ضراوة.
وتلك الصورة البشعة لشعب مصر الذي يبيع لحمه من أجل لقمة العيش، وصولا إلى الإجراءات شديدة التعقيد فالبيروقراطية عندنا "لها شكل خاص يعتمد على غياب العقل وانعدام الفكر، والقوانين كثيرة عديدة متشابكة ومتضاربة، والقرارات تصدر دوما في لحظات انفعال وسخونة ثم لا تجد من يزيلها بعد ان تهدأ الأمور حتى لو كانت مصيرية".
ويضيف د. فاروق "لأن الفساد قد أصبح سمة عامة فالكل يحاول أن يجبرك على السقوط في مستنقعه، ويسعى جاهدا لتعذيبك وقهرك لو حاولت الإفلات منه، ومن أهم وسائل إغراق الناس في مستنقع الفساد، تلك النظم والقرارات الإدارية المعقدة التي لا سبيل للإفلات منها سوى في التحايل أو الالتفاف أو التزوير أو الرشوة، أما المواطن الشريف فهو يلف فيها ويدور حتى يتملكه اليأس ويصبح مستعدا ومؤهلا للفساد في سبيل حل مشكلاته أو تجاوز عقباته".
المأزق
يلعب د. فاروق في كتابه علي تيمة الفساد، فيتحدث في الفصل الثاني عن السلطة المطلقة التي تعني مفسدة مطلقة فبدأ الفساد يسري في ربوع الوطن "الفساد أصبح السمة العامة في مصر، والشىء الذي يوقن منه كل طفل ويعلمه كل شخص، وتنفيه الحكومة في كل لحظة، وكأنما هي العمياء الوحيدة وسط شعب من المبصرين، او أنها تدركه ولكنها عاجزة أو غير راغبة في مقاومته أو التصدي له لغرض في نفس يعقوب".
ويرى أنه نتيجة الفساد انقسم الناس إلى فريقين كبيرين الأول يسعى سعيا إلى الفساد ويحاول تبريره ليطفىء عذاب ضميره، الذي سرعان ما يكتفي بالعيش في حرامه معللا الأمر بأنه الوسيلة الوحيدة للعيش. الفريق الثاني لم يجد السبيل إلى الفساد فصار غاضبا ناقما، وبينهما فريق أفرغ غضبه في مفاهيم دينية تزداد تطرقا وتعقيدا.
يقول المؤلف "اختلطت المفاهيم وارتبكت العقول وامتزجت التقاليد القديمة والشرقية بالأحكام الدينية، وارتدت الآراء الشخصية ثوب الدين، كوسيلة لإخراس كل الألسنة، وراح التياران المتضادان يتعاظمان في المجتمع على التوازي، تيار الفساد وتيار التطرف، الذي ساهم الغرب في تقويته ليشمل العالم العربي كله من اقصاه إلى أقصاه حتى ننشغل في صراعات داخلية طائفية".
ويوضح أن في بلدنا ثلاث مؤسسات هي المسئولة عن كل ما وصلنا إليه من تدهور فكري وانعدام ثقافي وسلفية هستيرية لم تعد ترى الخير في عالم يتسابق للحاق بالمستقبل، سوى في التشبث بالماضي.
المؤسسة الأولى هي المؤسسة الدينية التي كبرت وتعملقت في العقود الثلاثة الخيرة لتدس أنفها في كل شىء في السياسة والعلم والقضاء والاقتصاد وتعود بنا ألف عام للوراء. ويرى د. فاروق أن المؤسف ليس تعملق المؤسسة الدينية أكثر مما ينبغي ولكن أن الدولة تبارك هذا التضخم وترعاه لأنها تتصور أنه القوة المضادة التي تواجه بها التيار الديني المتطرف.
المؤسسة الثانية هي المؤسسة الأمنية التي يرى المؤلف أنها قامت بإخضاع رجال الأمن كلهم في مصر لحالة غسيل مخ قوية، جعلتهم يؤمنون في النهاية بأن مهمتهم الأولى هي طاعة أوامر الرؤساء وفقط .
الثالثة هي المؤسسة الرياسية والتي تستخدم مع المؤسسة الأمنية تهم تعكير الأمن العام وتهديد الأمن القومي، و"الإساءة إلى سمعة مصر" وهذا الاتهام الأخير، كما يقول المؤلف، تم ابتذاله على نحو يفوق العقل والمنطق، فأي ناقد يرفض فيلما سينمائيا، يعتبره إساءة لسمعة مصر وأي كشف لعيب من عيوب المجتمع هو إساءة لسمعة مصر "وكأن سمعة مصرهذه مهتزة وضعيفة، حتى أن أية لمسة كفيلة بالإساءة إليها!".
ويستشهد المؤلف بالمخرج الأمريكي مايكل مور الذي تهاجم أفلامه الأخيرة النظام المريكي بعنف وترفع الغطاء عن عيوبه، ولكنه يحصل على جوائز من كل الجهات ولم تتهمه جهة واحدة أنه يسىء إلى سمعة أمريكا.
ويقول: عندنا في مصر أخرج يوسف شاهين ذات مرة فيلما بعنوان "مصر منورة بأهلها" وأظهر فيها أكوام الزبالة والعادات السيئة، وثارت الدنيا وهاجت وماجت واتهموا يوسف شاهين وفيلمه بالإساءة إلى سمعة مصر، ولكن أحدا لم يرفع أكوام الزبالة ولم يحارب العادات السيئة.. وهذه هى مصر.. وسمعة مصر.

يا عيني يا مصر

في الفصل الثالث الذي حمل عنوان الكتاب، يواصل د. فاروق صراخه الذي نسمعه منذ السطر الأول، معددا لمساوىء وسلبيات تؤرقه وتؤرقنا معه، فيتحدث عن صفقات "بيع مصر" قطعة قطعة، والتي تقودها الحكومة تحت مسمى "الخصخصة" والتي حملت، كما يقول المؤلف، أكبر قدر ممكن من الفساد العلني واللامبالاة بالشعب، وأموال الشعب ومستقبل الشعب.. فالمصانع والشركات تم تقييمها بأقل من سعر الأرض المقامة عليها، وبيعت رسميا ونحن نتفرج وعيني عينك، ولسنا ندري حتى أين يذهب ثمنها، مع حديث المسئولين عن الفقر والفاقة ونقص المواد طوال الوقت.
"الحكومة لديها شعور دائم بأنها ذكية ولماحة، وبأننا شعب أحمق جاهل، لا يعجبنا العجب ولا الصيام في رجب، ونحن لدينا يقين أنها حكومة عبيطة متعجرفة ومنفصلة تماما عنا، ولا تشعر بنا أو تهتم بمصالحنا، بل وليست حتى من طينتنا؛ فالحكومة انشغلت بفئة واحدة من المجتمع وهي فئة القادرين، فراحت تزيدهم راحة ومتعة وتخفض من أجلهم أسعار السلع المستوردة، والسيارات، واشتراكات الإنترنت، في نفس الوقت الذي تضاعف فيه سعر الكيروسين، فيرتفع سعر الخضروات والفاكهة ووسائل النقل، وتتحول حياة الفقراء إلى جحيمين بدلا من جحيم واحد".
ويرى المؤلف أن السمة الغالبة علينا هي البطء المستفز، في زمن يتسارع كل شىء فيه لينطلق بسرعة الصاروخ.. ولأننا سلحفائيين في عصر الصواريخ أصبحنا أعداء كل تطور.
ويؤكد د. فاروق "نحن دولة غضب, الكل فيها غاضب، ساخط، ناقم على كل الأوضاع، وهذا أمر طبيعي مع الفساد المنتشر في كل مكان والرشوة التي أصبحت ظاهرة اعتدناها، والمحسوبية في كل المهن والوظائف والأعمال".
ولو أنك سرت في مصر، فسترى الغضب على كل الوجوه وفي كل التصرفات وكل ردود الأفعال، وذلك الغضب يجعل روح الكل في مناخيره، فلا أحد يحتمل ولو لمحة من الاحتمال على الرغم من أن حياتنا كلها متاعب ومصاعب.
لا أحد يبتسم في وجه أخيه، على الرغم من أن هذا صدقة، ولا احد يتجاوز عن أخطاء الآخرين، على الرغم من أن الكل يرتكب عشرات الأخطاء.. فماذا أصاب مصر والمصريين؟!.. وماذا غير طبائعنا وسماتنا وصفاتنا؟!
إنه اليأس من أن تنصلح الأحوال أو يسود العدل أو يأخذ كل ذي حق حقه، على أي مستوى من القمة إلى القاع.. ففي بوتقة الفساد لا يمكن أن يولد الخير أو يكون هناك أمل في الإصلاح الذي يتحدث عنه النظام ليل نهار، ثم لا يعمل به لحظة واحدة".

المصدر: موقع حريتنا
  • Currently 158/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
52 تصويتات / 517 مشاهدة
نشرت فى 22 إبريل 2010 بواسطة books

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,305