الفجوة التي ردمتها تقنية الإنترنت وعوالم الويب الجديدة في مجال تقليص مسافات الزمن والمكان وجعل العالم قرية واحدة صغيرة مرتبطة في كل مناطقها النائية والمأهولة بضغطة زر، لم تفصح عن وجهها الإيجابي بقدر ما سارعت في تقديم أوجه أخرى مغايرة، أكثر خطورة وأشد الحاحاً، باتت تهدد صميم قيم حساسة ومرتبطة بقضايا ذات أولوية من القدسية بمكان بالنسبة للناس كالدين والهوية والأعراف والتقاليد والعادات والثقافة والقيم الحضارية.
مع بروز تلك الأوجه ارتفعت الأصوات على كافة المستويات وفي جميع النخب منادية بنصب متاريس دفاع أكثر قوة أمام هشاشة البنيات الثقافية للمجتمعات في ظل عالم مفتوح متبادل التأثير وسماوات ذات أسطح لا تغربل الشوائب كثيرا، خوف انعكس ليمس كافة المسارات السياسية والثقافية لأن النوافذ الجديدة شكلت متنفساً لأصوات مخنوقة في فضاءاتها المحلية، وأخرى تسعى للاستقطاب الدعم في فضاءات أخرى.
حول هذه العوالم المفتوحة والمتقاربة والمتبادلة التأثير يدور كتاب الباحثين القانونيين جاك جولد سميث وتيم وو “من يحكم الإنترنت؟ أوهام عالم بلا حدود” "who controls the internet"، الصادر عن مشروع “كلمة” في عام 2009 بترجمة من فاطمة غنيم، ولأن الباحثين يعالجان الموضوع من وجهة نظر مغايرة تلامس تصورات تخالف الرؤية التقليدية للإنترنت كمحفز أساسي لأدوات العولمة المعاصرة يقدمان طروحات في كتابهما تؤسس للقوة الخارقة للأسوار الخلفية في إيصال أصواتها عبر هذه العوالم وقوة جدران الثقافة والسلط السياسية الموازية أمام مد التأثير والتأثير المتبادل.
الوجه الآخر للعولمة
إن كانت معظم التقييمات المعاصرة للعولمة تقوم على معطيين أساسيين: الأول منهما هو أننا نعيش في حقبة أصبح من السهولة فيها نقل البضائع والأشخاص والخدمات عبر الحدود وذلك بفضل التكنولوجيا والثاني هو أن العولمة تقلل من أهمية الحدود والجغرافيا مما يقلل من أهمية الدولة في كيانها العضوي المستقل ويحد من سلطتها كتجمع يسير شؤون مجموعة من البشر، فإن هذين الباحثين في طرحهما يستندان الى أن العولمة في كافة سياقاتها وتزامنا مع تكنولوجيا الإنترنت وطفرتها في جميع مراحلها ما زالت عصية على تلاشي الدول كوحدات عضوية في فضاءاتها، ويفندان طروحات سابقة في هذا المجال كنظرية المفكر جورج جيلدر في التسعينات من القرن الماضي والذي تنبأ بأن التكنولوجيا الجديدة ستقلص أهمية الموقع، وتطمس معالم المدينة كمكان مميز وله ثقافة محددة.
والفكرة الأساسية التي يستند لها الباحثان في هذا الباب هي قوة اجتماع البشر على قيم وأذواق مشتركة، وهي نفس القيم التي حددت في الأصل انتماءهم لحيز جغرافي أو ثقافي واحد، فهؤلاء الأشخاص المختلفين والمغايرين لآخرين يطالبون في الغالب بأنماط مختلفة من خبرات الإنترنت والتكنولوجيات الجديدة مما يجبر السوق على الإنصات لمطالب تكتلات محددة في فضاءاتها.
هذه القوة الخارقة للوحدات الأساسية المشكلة للعالم تفرض منظورا جديدا للعولمة يكشف عن أوجه جديدة تخالف التفسيرات التقليدية المماثلة في فهم الإنترنت واختراقه للحدود، والعولمة وطمسها للدول.
سور الصين الجديد
في قوة الدولة في تسييرها لدفة السماوات المفتوحة يفرد الباحثان حيزا كبيرا من الكتاب لعرض التجربة الصينية، فالنمط السياسي والذي يوصف في الغرب بأنه الأكثر عزلة في تاريخنا الحديث يفرض الكثير من الشروط لتنقية أجواء هذا الفضاء وغربلة المواد التي تقدم للمتصفح الصيني، رغم المنازعات مع كبريات الشركات والتي كان آخرها الخلاف مع شركة جوجل.
فالحكومة الصينية حسب جولد سميث وتيم واو نموذج للقوة الحكومية الماهرة في ضبط السيادة وفرض إنترنت قومية تتماشى مع نمطها ومعاييرها داخل حدودها، وهي بذلك تبني لإنترنت مغاير لبنيته في الغرب، ليس من حيث اللغة والثقافة فقط، بل من حيث قيمها وبنيتها الخفية، وهنا تكون النظريات التي كتب عنها فريدمان طيلة السنوات الماضية ضربا من الخيال حينما كان يقول بأن الإنترنت ستفتح المجتمعات المغلقة، وذلك بجزمه بقوة الإنترنت الخارقة كقوة خارجية لا تقهر.
فسلطة الدول داخل حدودها أصبحت تساهم في تشكيل بنيات الإنترنت بطرق مختلفة مما جعل من كل دولة تسعى لترجيح نمطها كنمط أفضل، فالولايات المتحدة ترجح النموذج الحر والمفتوح نسبيا للإنترنت بينما تقدم الصين النموذج السيادي للإنترنت، فيما أصبح يشبه حربا باردة جديدة تلوح في الأفق بين القوتين اللدودتين، فكلاهما يهدف لتغليب رؤيته الخاصة لمستقبل هذه التقنية وطريقة تحكمه فيها.
فمن وجهة نظر فلسفية وقانونية يقدم الباحثان تحليلا لسلطة هذا العالم مقابل سلطة أخرى موازية اكثر قوة واقل اتساعاً، تصب في تحكيم القانون والتشريعات على مسارات التدفق الهائل للمعلومات في الوقت الذي أصبحت فيه الدول مهددة في توجهاتها وخياراتها المتاحة، ويقدم الكاتبان أدلة على اختراق الإنترنت للسلط السياسية، كمدونات الناشطين الحقوقيين الصينيين المقيمين في الولايات المتحدة ومحاولاتهم الدائمة توظيف هذه الفضاءات لاختراق سورة الحماية الذي تفرضه السلطة الصينية، وذلك بعدة أساليب تمس صميم الحمائية السياسية.
شارك في تأليف هذا الكتاب كل من القانوني جاك جولدسميث وهو استاذ القانون بكلية الحقوق بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب “حدود القانون الدولي”، والذي عمل سابقا كمساعد للمدعي العام من مكتب المستشار القانوني في وزارة العدل الأميركية، ورفيقة في البحث هو تيم واو وهو استاذ قانوني أيضا في كلية الحقوق في جامعة كولومبيا وعمل سابقا في صناعة اتصالات الإنترنت بوادي السيليكون، وقد اشتغلا على مخطوطة البحث لهذا الكتاب عدة سنوات قابلا فيها أهم المشتغلين في حقل الإنترنت وأرباب كبار الشركات المسيرة لهذا العالم، وتتبعا منافذها للدول وعبر الحدود، والسياسات الحمائية التي تنتهجها الدول في المقابل في محاولة توجيهها في ما بات يعرف بالسيادة في ظل تدفق المعلومات، وهي طروحات تدخل في صميم التشريعات والقوانين الدولية والخاصة المنظمة للإنترنت وسيادة الدول في فضاءاتها المحلية والخاصة في ظل عالم مفتوح.
ساحة النقاش