إِنَّ مِنْ أُسُسِ دِينِنَا الْإِسْلَامِيِّ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْ أُصُولِ عَقِيدَتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ الْقَوِيمَةِ: الِاعْتِصَامَ بِدِينِ اللهِ -تعالى-، وَالتَّعَاوُنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ، وَالتَّمَسُّكَ بِالْوَحْدَةِ وَالِائْتِلَافِ، وَتَجَنُّبَ مَا يُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ وَالشِّقَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهِيَ أُصُولٌ نَبِيلَةٌ، وَأُسُسٌ أَصِيلَةٌ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيطُ فِيهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَلِ الْوَاجِبُ الشَّرْعِيُّ يُحَتِّمُ عَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَسْعَى لِلْحِفَاظِ عَلَيْهَا وَالتَّمَسُّكِ بِهَا؛ قَالَ اللهُ -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103).
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجْلُبُهُ التَّمَسُّكُ بِالْوَحْدَةِ وَالِاعْتِصَامِ: حِفْظَ النِّعَمِ وَدَوَامَهَا، وَزِيَادَتَهَا وَنَمَاءَهَا، أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ نِعْمَةَ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالرَّخَاءِ وَالْإِيمَانِ، وَقَدْ حَبَانَا اللهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ الطَّيِّبِ تِلْكَ النِّعَمَ الَّتِي تَفْتَقِدُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَمِ؛ فَوَجَبَ عَلَى الْعُقَلَاءِ شُكْرُهَا لِتَدُومَ وَمُرَاعَاتُهَا لِتَبْقَى؛ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7). فَلْنَحْفَظِ النِّعْمَةَ خَشْيَةَ زَوَالِهَا، وَلْنُحَافِظْ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ صِيَانَةً لِلْأُمَّةِ وَأَجْيَالِهَا، وَلْنَحْذَرِ الْفِتْنَةَ الْعَمْيَاءَ، وَكُلَّ مَصَايِدِهَا وَحِبَالِهَا؛ فَإِنَّ الْأَيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ دُوَلٌ، وَلْيُصَدِّقِ الْقَوْلَ مِنَّا الْعَمَلُ؛ فِي صِدْقِ الْإيمَانِ وَافْتِدَاءِ الْأَوْطَانِ.
الحكمة عند الفتن
إِنَّ الْعَاقِلَ تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ عِنْدَ الْفِتَنِ، وَتَبِينُ حُنْكَتُهُ فِي وَقْتِ الْمِحَنِ، فَيَكُونُ دَاعِيًا إِلَى الْحِكْمَةِ وَالتَّرَوِّي، وَتَجَنُّبِ مَا يُثِيرُ الْخِلَافَ وَيُورِثُ الشِّقَاقَ بَيْنَ النَّاسِ، مِنْ تَبَادُلِ الْإِسَاءَاتِ وَالِاتِّهَامَاتِ عَبْرَ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ وَالتَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَهِيَ أُمُورٌ يَرْفُضُهَا دِينُنَا الْحَنِيفُ الَّذِي يَأْمَرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَأْبَاهَا أُصُولُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ وَتَـزِينُهُ، وَتَنْهَى عَنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ وَتَشِينُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ -تعالى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199)، وَقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت:34-35).
كَمَا أَنَّ هَذِهِ الإِسَاءَاتِ عَبْرَ وَسَائِلِ الإِعْلَامِ وَالتَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ تَمُجُّهَا عَادَاتُ أَهْلِ الْكُوَيْتِ الْأَصِيلَةُ، وَتَرْفُضُهَا أَخْلَاقُهُمْ وَتَقَالِيدُهُمُ النَّبِيلَةُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُرِّيَّةُ الرَّأْيِ وَالتَّعْبِيرِ طَرِيقًا لِتَهْدِيدِ أَمْنِ الْبِلَادِ وَاسْتِقْرَارِهَا، وَالدُّخُولِ فِي مَتَاهَةِ الْفَوْضَى وَالْعَبَثِ الْمُدَمِّرِ.
الفرقة والشقاق
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُحْدِثُ الْفُرْقَةَ وَالشِّقَاقَ مَا نَرَاهُ مِنْ تَرَاشُقٍ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ وَالتَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَتَبَادُلِ الْإِسَاءَاتِ وَالِاتِّهَامَاتِ، وَهِيَ خَنْجَرٌ مَسْمُومٌ يَطْعَنُ جَسَدَ الْبَلَدِ لِيُمَزِّقَ لُحْمَتَهُ، وَيَفُتَّ فِي عَضُدِهِ وَيُثِيرَ الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابَ، وَيُحْدِثَ الشِّقَاقَ وَالْخِصَامَ، وَيَفْتَحَ الْبَابَ لِيَلِجَ مِنْهُ اللِّئَامُ، خَاصَّةً أَنَّـنَا نَعِيشُ ظُرُوفًا إِقْلِيمِيَّةً وَعَالَمِيَّةً مُتَبَايِنَةً، وَنَشْهَدُ أَحْدَاثًا وَتَطَوُّرَاتٍ مُتَنَامِيَةً، وَلَنْ نَجِدَ سَبِيلًا يَقْطَعُ عَلَى الْمُتَرَبِّصِينَ مَكْرَهُمْ، وَعَلَى الْعَابِثِينَ كَيْدَهُمْ وَتَدْبِيرَهُمْ؛ أَنْجَعَ وَلَا أَفْضَلَ مِنِ الْتِزَامِ مَا أَمَرَنَا بِهِ دِينُنَا الْعَظِيمُ مِنْ أَحْكَامٍ وَأَخْلَاقٍ وَقِيَمٍ وَمَبَادِئَ؛ فَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالْعَدْلِ وَنُحْسِنَ فِي الْقَوْلِ، وألا نَأْخُذَ النَّاسَ بِالتُّهَمِ وَالظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ وَالشُّكُوكِ؛ فَإِنَّ الْمُتَّهَمَ بَرِيءٌ حَتَّى تَثْـبُتَ إِدَانَتُهُ؛ قَالَ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات:12)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ). فَلْيَحْذَرِ الْعَاقِلُ الْوَقِيعَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَالْإِسَاءَةَ إِلَى سُمْعَةِ النَّاسِ وَكَرَامَتِهِمْ، وَلْيَحْفَظْ لِسَانَهُ مِنِ اتِّهَامِ النَّاسِ فِي ذِمَمِهِمْ، وَلْنَـتْـرُكِ الْأَمْرَ لِذَوِيهِ مِنْ أَهْلِ الِاطِّلَاعِ وَالِاخْتِصَاصِ، حَتَّى يَقُولُوا كَلِمَةَ الْفَصْلِ وَيَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.
هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا- يَا عِبَادَ اللهِ – أَنْ نَحْفَظَ أَلْسِنَتَنَا وَنَصُونَ أَسْمَاعَنَا عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِينَا، وَأَنْ نَتْـرُكَ الْأَمْرَ لِأَهْلِهِ، وَلِلْقَضَاءِ وَفَصْلِهِ.
أمانة في أعناقنا
لذلك فإنَّ وَحْدَةَ الْوَطَنِ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا، وَنَحْنُ مَسْؤُولُونَ عَنْهَا أَمَامَ اللهِ: أَحَفِظْنَا أَمْ ضَيَّعْنَا؟ فَعَلَيْنَا أَنْ نَعْمَلَ بِجِدٍّ وَصِدْقٍ، وَإِخْلَاصٍ وَمُثَابَرَةٍ؛ لِنَعيِشَ الإِيـمَانَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ التَّرَدُّدَ، وَالْوَحْدَةَ الَّتِي لَا تَعْرِفُ التَّفَرُّقَ، والشُّورَى الَّتِي لَا يُخَالِطُهَا اسْتِبْدَادٌ، وَالتَّضَامُنَ الَّذِي لَا تُلَامِسُهُ أَثَرَةٌ، لِنَتَعَاوَنْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنَتَنَاهَ عَنِ الإِثْمِ وَالْمُنْكَرِ وَالْعُدْوَانِ، وَلْنَكُنْ يَداً عَلَى مَنْ سِوَانَا: دِينُنَا الإِسْلَامُ، وَمَنْهَجُنَا الْقُرْآنُ، وَقُدْوَتُنَا رَسُولُ اللهِ -[-، وَلْتَـكُنْ آمَالُنَا مُشْتَرَكَةً، وَآلَامُنَا مُقْتَسَمَةً. وَلْنَنْتَبِهْ إِلَى مَصْلَحَةِ وَطَنِنَا الْعَزِيزِ وَصِيَانَةِ أَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، وَلْنَقِفْ صَفًّا وَاحِدًا فِي وَجْهِ مَنْ يُحَاوِلُ الْعَبَثَ بِأَمْنِهِ وَشَقَّ وَحْدَتِهِ الْوَطَنِيَّةِ، وَلَنَبْتَعِدْ عَنِ افْتِعَالِ التَّجَمُّعَاتِ وَمَظَاهِرِ الْفَوْضَى وَالِانْفِلَاتِ الَّتِي قَدْ تُسْتَغَلُّ فِي غَيْرِ أَهْدَافِهَا، وَتُتِيحُ الْفُرْصَةَ لِمَنْ يُرِيدُ بِالْكُوَيْتِ سُوءًا، وَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْعِبْرَةَ مِنْ تَجَارِبِ غَيْرِنَا، وَالْأَحْوَالِ الَّتِي تَعْصِفُ بِسِوَانَا.
صفاء القلوب
وَيَجِبُ الْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ صَفَاءِ الْقُلُوبِ، وَتَوْحِيدِ الْـمَشَاعِرِ، وَسِيَادَةِ مَبْدَأِ الْـحُبِّ وَالتَّفَاهُمِ وَالِائْتِلَافِ، عَلَى الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّنَاحُرِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلِكَيْ تَبْقَى ظِلَالُ الْوَحْدَةِ وَارِفَةً؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَرَفَّعَ عَنِ النِّـزَاعَاتِ وَالْـخُصُومَاتِ، وَنَتعالى- عَلَى الْـخِلَافَاتِ؛ فَمَصْلَحَتُنَا الْعُلْيَا فَوْقَ كُلِّ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ شَخْصِيَّةٍ.
كَيْفَ لَا؟ وَقَدْ حَذَّرَنَا رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتعالى- مِنَ الْـخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ يُوهِنُ عَزْمَ الأُمَّةِ وَلَا يَأْتِي بِخَيْرٍ؛ قَالَ سُـبْحَانَهُ وَ-تعالى-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46).
وَقَالَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثاً وَيسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثاً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ. وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْـمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ واللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ). وَفِي الِاجْتِمَاعِ الْبَرَكَةُ، وَفِي التَّفَرُّقِ الضَّعْفُ وَالْـخُذْلَانُ، وَيَدُ اللهِ مَعَ الْـجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ: شَذَّ فِي النَّارِ.