من يؤثر في الآخر : الثقافة أم السياسة ؟
من يؤثر في الآخر؟ هل الثقافة هي التي تنعكس على السياسة أم السياسة هي التي توظف الثقافة؟ وهل تصلح الثقافة ما أفسدته السياسة بتقسيم العالم بين مستعمِرين ومستعمَرين؟ أم أن اختلاف الثقافات بين ثقافة استعمارية، وثقافة للتبعية، وثقافة تحررية، هو السبب الأساسي في اختلاف السياسات الدولية؟
يلي ذلك سؤال آخر.. عن أية ثقافة نتحدث؟ عن الثقافة الصحيحة أم عن الثقافة المريضة؟ وما معيار الصحة والمرض؟ وما هي المرجعية لتحديد ذلك؟
وباعتبار أن الثقافة هي نتاج إنساني معنوي لصراع الإنسان مع محيطه المادي في بيئة معينة وفي زمن معين، فمعنى ذلك أن الثقافة نتاج لحالة اجتماعية بشرية قابلة للتغير في بيئة أخرى وفى زمن آخر، وتغيير ثقافة المجتمع أو تغيرها نشهده في أكثر من مكان وزمان
والسياسة، أية سياسة، هي أيضا ظاهرة اجتماعية بشرية متغيرة بتغير الظروف، سواء في الوسائل أو في الأهداف، وهي ذات أهداف ولها وسائل تتفق مع هذه الأهداف، وشرف الوسيلة أو خبثها يتفق مع شرف الغاية أو خبثها
وكل منهما يؤثر في الأخرى. ومع كون الثقافة هي الخلفية القيمية والفكرية للساسة وبالتالي للسياسة، إلا أنهما كظواهر لحالات اجتماعية متغيرة، بحاجة دائما إلى مرجعية ثابتة للحكم لهما أو عليهما بالصحة أو بالمرض، لأنه لا يمكن لفكر إنسان أو لجماعة بشرية، أن تكون حكما على فكر إنسان أو جماعة بشرية أخرى أو معيارا أو مرجعية للحكم له أو عليه
من هنا فلا مرجعية ثابتة وصالحة لبيان سلامة الفكر أو سقمه، ولا معيار للصحة أو للمرض في كل منهما، إلا ما يحدده مدى القرب أو البعد عن الدين الذي هو ذات جوهر واحد، ونابع من مصدر واحد أعلى وأعلم وأحكم، عبر الرسالات السماوية الثلاث الكبرى، ذلك الدين الواحد هو الذي يمثل ينبوع القيم المعنوية والأخلاقية، التي تمثل جوهر ومضمون الثقافة الصحيحة
وبالتالي السلوك الصحيح، لأن ما يؤثرعلى الثقافة المتغيرة والسياسة المتغيرة، وما يشكل المرجعية لهما معا، ما هو ثابت وليس ما هو متغير.. ما هو ثابت هو الدين والجغرافيا والتاريخ، وما ينتج من ثقافة هو ما ينتج عن درجة التفاعل الإنساني مع هذه الثوابت، وهنا تتباين الثقافات بمدى قربها أو بعدها عن تلك الثوابت القيمية والطبيعية
وفى النهاية ما إذا كانت نابعة من القيم الروحية النابعة من رسالات السماء الصحيحة أو مجافية لها. وعموما، ومهما كان من مساحة التباين والاختلاف بين ثقافة وثقافة وبين سياسة وسياسة، فإن السبيل الإنساني الأسلم والأجدى والأحكم، هو الحوار الإنساني المتواصل، والتعاون في المساحة المشتركة
ومواصلة الحوار في ما يبقى من خلاف، بدءاً من الحوار بين العلماء المؤمنين بالرسالات السماوية، ومرورا بالحوار بين مذاهب كل دين، ونهاية بالحوار بين الثقافات المختلفة عبر المثقفين وبين السياسات المختلفة عبر السياسيين
وهذا هو ما يبدو البديل السلمي للصراع الدموي البغيض، تحت عناوين مثل "غزو الثقافات" و"صراع الحضارات" و"الحروب المذهبية "، بسبب جهل كل طرف بالآخر وإدانة كل طرف للآخر، وعداء كل طرف للآخر، وتصادم كل طرف مع الآخر، دون محاولة للتفهم أو للتفاهم. من هنا يبدو الحوار الديني والثقافي والفكري والسياسي والمذهبي، هو الحل للمشاكل البشرية, وللمآسِي الإنسانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية
لقد دعونا وما زلنا ندعو للحوار، لأن ديننا هو دين حوار، ودين دعوة بالتي هي أحسن، خصوصا مع أهل الكتاب، للقاء على كلمة سواء ألا نعبد إلا الله، ولأنه لا بديل عن الحوار بين علماء الرسالات السماوية، للوصول إلى القواسم المشتركه والمبادئ الواحدة التي تتضمنها هذه الرسالات، باعتبارها صادرة من مصدر واحد، ومن أجل هدف واحد هو العدالة بين الإنسان والإنسان والتآخي بين كل بني البشر، وعمارة الأرض لخير وسلام الإنسانية جمعاء
ولا بديل عن الحوار مع الآخر لأن معظم المشاكل السياسية, بل ومعظم الحروب والمآسي الإنسانية, إنما هي ناتجة عن الجهل بثقافة الآخر, والجهل يولد سوء الفهم, وسوء الفهم يولد الجفاء, والجفاء يقود إلى العداء، والعداء يشعل الفتن والحروب بما يؤدي إلى الدماء والخراب والدمار
وفى هذه الحالة، أوليس الأولى أن يصبح الحوار بين العلماء المسلمين في المذاهب الإسلامية المتنوعة شأنا يوميا؟ إن لم يكن للتقريب بينها من موقع الأخوة لا من من موقع الشك أو عدم الثقة، فعلى الأقل لتحقيق التعرف والتفهم ودرء أسباب الجفاء ودفع مخاطر العداء
الحوار هو الأولى بالتأكيد، بدلا من الوقوع في شباك الفتن التي يغذيها أعداء العرب، بين المؤمنين من كل دين بالرسالات السماوية، وأعداء المسلمين بمختلف مذاهبهم.. لأن الناس قد يكتشفون، وسوف يكتشفون من فهمهم لفكر ولرؤى وثقافة بعضهم البعض، أن هناك مساحة اتفاق حول القيم الإنسانية المشتركة، أوسع بكثير من توقعاتهم, وأن مساحات الخلاف أضيق كثيراً من التصورات النمطية المسبقة
والمدهش أن تلك هي الحقيقة، وأن ما يجمعنا أكبر وأكثر بكثير مما يفرقنا، خصوصا في الواقع الوطني والعربي والإسلامي