افتراض براءة المتهم"" دراسة مقارنة"" للدكتور أحمد لطفي السيدأولاً : مبدأ افتراض البراءة في الفقه الوضعي ثانياً : التكريس الشرعي لمبدأ افتراض البراءة:
من رابطة محامين المحله
محبي البسيونى عبده
http://kenanaonline.com/basune1
افتراض براءة المتهم
في الفقه الوضعي والشريعة الإسلامية
د. أحمد لطفي السيد مرعي*
أولاً : مبدأ افتراض البراءة في الفقه الوضعي:
رغم ما يبدو لمبدأ افتراض البراءة في الإنسان - وإن صار متهماً - من بداهة تتسق والفطرة الطبيعية ، إلا أنه قد تعرض لنقد شديد من قبل العديد من الفقهاء ، ويأتي على رأس هؤلاء أنصار المدرسة الوضعية ، ويشاركهم البعض من الفقهاء المعاصرين توجهم الرافض.
أ : أصل البراءة في فكر المدرسة الوضعية :
لاقى مبدأ افتراض البراءة نقداً شديداً من قبل أنصار المدرسة الوضعية ، لما رأوه من تعارض بين هذا المبدأ وبين فلسفتهم المعتمدة في تصنيف المجرمين ، والتي تبنى على الاهتمام بشخص المجرم أكثر مما تهتم بالواقعة الإجرامية ذاتها.
فنفر من أنصار تلك المدرسة قد قال بفكرة المجرم بالميلاد ، وهم أولئك الأشخاص الذين يعود إجرامهم إلى تكوينهم الطبيعي أو البيولوجي ، كما ميزوا بين المجرمين بالعادة ، والمجرمين المجانين ، وآخرين بالصدفة ، والمجرمين بالعاطفة ، وأمام هذا التنوع قالوا بعدم إمكانية الأخذ بمبدأ افتراض البراءة إلا بالنسبة للمجرمين بالصدفة أو بالعاطفة دون بقية الطوائف ، الأمر الذي يتعارض مع عمومية انطباق المبدأ على كافة مرتكبي الجرائم كما يرى أنصار المدرسة التقليدية. وكما يرى أنريكو فيري (1856-1928) ، أحد أقطاب المدرسة الوضعية ، أن تعميم مبدأ أصل البراءة على كافة المجرمين من شأنه أن يؤدي إلى نتائج مبالغ فيها ، وعلى الأخص فيما يتعلق بمنحه حصانة غير مرغوب فيها لمرتكبي الجرائم وفيما يتعلق بالمغالاة في حماية المصلحة الشخصية للمجرم على حساب مصلحة المجتمع. كما قيل أنه لو فرض وسلمنا بافتراض البراءة فإن هذا لا يتصور إلا في مرحلة التحقيق الابتدائي ، حيث لم تثبت الأدلة بعد في حق المتهم على وجه اليقين ، وحيث لا تمثل تلك الأدلة إلا مجرد احتمالات أو ادعاءات ما زالت تعتريها الشبهة. هذا فضلاً عن أن قيمة هذا المبدأ لا تظهر – في رأي أنصار تلك المدرسة – إلا حينما تكون الأدلة ضد المتهم ضعيفة وافتراضية ، أما حين تكون الجريمة متلبس بها ، أو حينما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي ، فإن قيمة هذا المبدأ تبدأ في التلاشي. فإذا أضيف إلى كل ذلك ما يكشف عنه الواقع العملي من أن الكثير من المتهمين تتقرر إدانتهم ، لثبتت المبالغة التي يقيمها الفقه لمثل هذا المبدأ.
والواقع أن الانتقادات التي قال بها أنصار المدرسة الوضعية تبدو مغالى فيها. فقولهم أن هذا المبدأ يعيبه أنه يسري على كافة المجرمين دون تمييز بين طوائفهم ، قول مردود عليه بأن التصنيف الذي اعتمدته تلك المدرسة إنما هو تقسم فقهي أكثر منه تقسيم علمي يستند إلى أسس علمية سليمة. وإذا فرض وقيل أن لهذا التصنيف سند من العلوم التجريبية ، فإنه لن يكون له قيمة إلا في مرحلة التفريد القضائي للجزاء وفي أعقاب ثبوت الإدانة ، أما بالنسبة للإثبات الإدانة ذاتها فإن مقتضى مبدأ أصل البراءة يفرض وجوب تطبيقه على كافة المتهمين دون تمييز. وفي ذلك مراعاة لمبدأ المساواة النابع مما تقتضيه قاعدة القانون من اتصافها بالعمومية والتجريد.
حقاً قد يستفيد بعض المذنبين من هذا الافتراض للبراءة ، ولكن العدالة تأبى أن يكون هناك أنموذجين في تطبيق القاعدة القانونية ، أحدهما يفترض براءة طائفة من المجرمين ، وأخرى تفترض إدانة طائفة أخرى ، ذلك أن مجال تطبيق كل من الأنموذجين لا يمكن تحديده إلا بعد صدور حكم قضائي نهائي يحدد من كان مذنباً ومن كان بريئاً. أما قبل صدور حكم قضائي يحدد مراكز المتهمين فيتعين أن تتوحد المراكز القانونية للجميع دون تمييز. وبهذا الفهم لا يصدق القول بأن مبدأ افتراض البراءة يمنح المجرمين نوعاً من الحصانة غير المرغوب فيها ، فالحق أنه يمنح الجميع حصانة ضد التعسف والحيف والاتهامات التي تنال من الحرية الفردية.
كما لا يصح الادعاء بأن هذا المبدأ لا يجد له قيمة حين تكون الجريمة في حالة تلبس ، أو عندما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي ، ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا يقتصر أثره على إلزام هيئة الاتهام بإثبات وقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها فقط ، وإنما يفرض عليها ، إلى جانب ذلك ، معاملته على أساس أنه برئ طوال فترة الاتهام حتى تثبت إدانته ثبوتاً قطعياً لا شك فيه. وبدلالة أخرى ، فإن هذا المبدأ لا يهيمن فقط على مشكلة توزيع عبئ الإثبات ، وإنما يهيمن أيضاً على مشكلة أخرى ، لها النصيب الأكبر في مقام الإجراءات الجنائية ، ألا وهى مشكلة ضمان الحرية الفردية لمن تعرض لاتهام.
حقاُ إن ضبط المتهم في حالة تلبس يشكك في براءة المتهم ، الأمر الذي يبرر الخروج على بعض الأصول الكلية للإجراءات الجنائية فيما يتعلق بعمل مأموري الضبط القضائي كي يتمكنوا من الحفاظ على أدلة الجريمة وهى ساخنة ، غير أن ذلك لا يمكن له أن يدحض أصل البراءة المفترض ، الذي يظل محتفظاً بقيمته كاملة ، سواء من حيث دوره في صيانة الحرية الشخصية ، أو من حيث إلقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام. فلا يعدو التلبس إلا أن يكون قرينة بسيطة على صحة الأمر المدعى به من قبل تلك الأخيرة ، الذي قد يدحضها وجود سبب من أسباب الإباحة في حق من زعم نحوه بحالة التلبس ، أو تأكيد الأخير أن سبب ضبطه في تلك الحالة إنما محاولته إنقاذ الجني عليه الذي استغاث به ، أو مجرد تصادف وجوده في مكان الحادث.
وإذا كنا لا نجادل في أن اعتراف المتهم يمثل رأس الأدلة في مقام الإثبات الجنائي متى صدر عن إرادة حرة ، ومن شخص كامل الأهلية ، وكان واضح الدلالة على ارتكاب الجريمة أو المساهمة فيها ، إلا أن ذلك لا ينال من قيمة أصل البراءة المفترض في المتهم ، إذ تظل سلطة الاتهام مكلفة بعبء إثبات أن الاعتراف قد صدر مستكملاً عناصر مشروعيته كدليل للإدانة ، فضلاً عن تمتع المتهم بكامل الحماية التي يضفيها عليه افتراض براءته. وهذا كله لا يدعمه إلا لأن الاعتراف – مع سيادة مذهب الإثبات الحر - صار كغيره من الأدلة يخضع لتقدير محكمة الموضوع التي لها مطلق الحرية في تقدير صحته وقيمته القانونية ، بحيث يكون لها أن تطرحه كدليل مقدرة براءة المتهم.
ويكفينا رداً على قول أنصار المدرسة الوضعية أن الواقع العملي يكشف عن أن معظم من يتقرر اتهامهم تتأكد إدانتهم ، أن هذا القول بذاته حجة عليهم ، إذ هم يقرون هكذا أن بعض من يتقرر اتهامهم يقضى ببراءتهم ، الأمر الذي يؤكد ضرورة تمتع كافة المتهمين بأصل البراءة منذ توجيه الاتهام. فما دام أن العمل قد أثبت أن كثيرين قد ثبتت براءتهم بعض أن تعرضوا للاتهام وللحبس الاحتياطي ، فإنه من الأحوط ، إن لم يكن من الضرورة ، معاملة جميع المتهمين على أساس أنهم أبرياء إلى أن يقضى نحوهم بإدانة قاطعة. ولا يخشى حال ذلك أن يفلت بعض المذنبين من قبضة العدالة ، فتلك الأخيرة لا يؤذيها هذا الإفلات بقدر ما يؤذيها إدانة ظالمة لبرئ واحد. والقول بغير ذلك يدفع بالمجتمع نحو التضحية بالأبرياء في سبيل إدانة المذنبين ، الأمر الذي يمثل انتهاك للحرية وامتهان لكرامة الإنسان ، وفرض طابع تسلطي على مجمل الإجراءات الجنائية بحجة ، هى في مبدأها ومبناها واهية ، تسمى الدفاع عن المجتمع ضد الإجرام.
ب : أصل البراءة في الفقه المعاصر :
وجه بعض الفقهاء المعاصرين سهام النقد لمبدأ أصل البراءة ، حتى أنهم وصفوه بالمبدأ ذو الطبيعة الخيالية أو المثالية Caractère fictif utopique ou فلدى هؤلاء أنه إذا كان هناك ما يدعم هذا المبدأ في الماضي ، إلا أنه ليس هناك ما يدعمه في الوقت الحاضر ، فميزان العدالة كان يميل في الماضي إلى جانب سلطة الاتهام على حساب مصلحة المتهم ، إلى أن تحسن مركز الأخير ونال الكثير من حقوقه ، حتى غدت مدونات الإجراءات الجنائية تنهض على أساس محاباة المتهم على حساب حقوق المجني عليه والمضرور من الجريمة ، الأمر الذي أخل في النهاية بالتوازن الواجب بين حقوق المتهم وما يتوجب للمجني عليه من حقوق. وينتهي هؤلاء للقول بضرورة أن يفسر الشك لصالح المجني عليه أو المضرور من الجريمة لا لصالح المتهم ، فمن الخيال ، بل من السخرية ، القول ببراءة هذا الأخير ثم إحالته للمحاكمة ، فأي برئ هذا الذي تجري محاكمته!؟ ولا يخشى – في رأي هؤلاء – التعسف نحو المتهم ، طالما أن الاتهام لا يسعى إلى الإدانة بل يسعى إلى الحقيقية سواء جاءت في صالح المتهم أم ضده ، وطالما تقرر حق الطعن في أحكام المحاكم الدنيا لدى رجات قضائية أعلى تسمح بتجنب الإدانة الظالمة.
والواقع أننا نجد لهذا النقد صدى في الفقه المصري ، وذلك حين قال البعض بعدم دقة افتراض البراءة لتعارضه مع واقعة الاتهام ذاتها ومع الإجراءات الماسة بالحرية كالقبض والتفتيش والأمر بالحبس الاحتياطي ، وهى إجراءات لا يتسنى اتخاذها إلا قبل من توافرت دلائل قوية في حقه على الاتهام بارتكاب الجريمة ، فإذا قيل بافتراض البراءة لأصبحت تلك الإجراءات بغير أساس قانوني سليم. هذا فضلاً عن أن الضمانات التي تقررت للمتهم في كافة مراحل الدعوى الجنائية لم تتقرر لكونه برئ وإنما لمجرد كونه متهم. كما أن تفسير الشك لمصلحة المتهم لا يعود لكونه بريئاً ، بل لأن القاعدة أن الإدانة الجنائية تبنى على الجزم واليقين. وأن قاعدة أن عبء الإثبات يقع على عاتق الاتهام فهى الأخرى ليست تطبيقاً لقاعدة افتراض البراءة ، وإنما نابعة من طبيعة الخصومة الجنائية ذاتها. وينهى هذا الرأي بضرورة استبدال عبارة افتراض البراءة بالعبارة التي تبناها الدستور الإيطالي القائلة بأن "المتهم لا يعد مذنباً حتى صدور الحكم النهائي بإدانته" (م.27/2) ، أو بالنص على اعتبار المتهم مجرد مشتبه فيه Simplement suspect بدلاً من اعتباره بريئاً Innocent.
والحق أن تلك الحجج ليس من شأنها الإقناع بعدم مقبولية مبدأ أصل البراءة. فليس صحيحاً أنه لا يوجد في الحاضر ما يبرر هذا المبدأ ، إذ أن افتراض البراءة لا يتوجه بالخطاب فقط لرجال السلطة العامة ، بل يتوجه للقضاء كذلك في مرحلة المحاكمة. فالواقع أن هذا المبدأ يبدو في كثير من الأحيان كمكمل لعدد من المبادئ التي تلزم لوصف المحاكمة الجنائية بالمحاكمة العادلة ، وعى رأسها مبدأ حياد القاضي الجنائي. فلو فرض وقام شاهد بالتعبير عن رأي يضير بالمتهم ، أو أطلق العنان للسانه لسب المتهم ولم تنه المحكمة عن ذلك ، فإن الأخيرة تكون قد فقدت حيادها بأن شاركت الشاهد عداوته للمتهم ، وافتأتت من ثم على مبدأ أصل البراءة ، الذي يظهر كمكمل لمبدأ حياد القاضي.
بل إننا لا نشطت في الحديث إذا قلنا أن النص على هذا المبدأ في صلب الوثائق الدستورية يعني توجهه بالخطاب كذلك للسلطة القائمة على أمر التشريع الجنائي ، بما يضع على عاتقها قيداً يوجب مراعاة قيم هذا المبدأ ونتائجه حال تنظيم الإجراءات الجنائية التي يمكن اتخاذها إذا تم توجيه الاتهام للأحد الأفراد. ولعل كل ذلك يؤكد ضرورة الإبقاء على قيم هذا المبدأ في وقتنا الحاضر ، هذا الوقت الذي تتوجه فيه الأنظار نحو تعزيز واحترام حقوق الإنسان.
كما أن هذا الرأي يتغافل عن الخصوصية التي تتمتع بها الدعوى العمومية ، وكونها دعوى تهم المجتمع بأسره ، ومن ثم فإن تحديد مواقف الخصوم تمليه المصلحة العامة لا مصلحة الجني عليه. والمجتمع كما تهمه معاقبة المتهم حال ثبوت الجرم في حقه ، تهمه أيضاً براءة من وجه إليه اتهام ظالم. وهكذا فإن المجني عليه لا يظهر بحسبانه خصماً في الدعوى العمومية ، ولا تبدو الأخيرة – على خلاف الدعوى المدنية – أنها تستهدف الوصول إلى تسوية عادلة بين المتهم والمجني عليه ، ولا يمكن والحال كذلك القول بأن المجتمع يرى خيره في أن يسارع بإدانة شخص قد تظهر براءته فيما بعد. فالحرية ليست منحة من المجتمع ، بل هى حق طبيعي يتقرر لكل فرد ، ومصلحة الفرد في الدفاع عن حريته تعلو على مصلحة الجماعة في مواجهة الجريمة ، وذلك لما يترتب على الجزاء الجنائي من مخاطر يتعذر في كثير من الأحيان تجاوزها.
يضاف إلى ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا يتعارض بحال مع الإجراءات الماسة بالحرية التي يمكن اتخاذها قبل المتهم في مرحلة التحقيق الابتدائي أو في مرحلة المحاكمة ، فكما سبق القول أن عنصر الدفاع عن حرية الفرد يتصادم منذ البداية مع مصلحة المجتمع في الدفاع عن نفسه ضد خطر الجريمة ، وللتنسيق بين المصلحتين يتوجب السماح – بموجب غطاء شرعي من نص دستوري أو قانوني – بالمساس بالحرية الفردية بما يمكن من الوصول للحقيقة حول جريمة ما ، مع وجوب افتراض براءة من خضع لتلك الإجراءات ، بحيث لا تتقرر إدانته في النهاية إلا بأدلة قاطعة تبرر في النهاية ما عساه يكون اتخذ قبله من إجراءات ماسة بشخصه. ولم يكن يمكن التوصل إلى قدر من التوازن بين مصلحة المتهم ومصلحة المجتمع إلا بتقرير ضمانات وحقوق للمتهم ، لا بحسبانه متهماً ، ولكن بحسبان أن ما يتخذ قبله من إجراءات ماسة بالحرية إنما يزيل البراءة المفترضة فيه. ولو قيل أن تلك الضمانات تعود فقط لكونه متهماً ، فلنا أن نتساءل ، لماذا لم تتضمن التشريعات القديمة مثل تلك الضمانات حماية لحقوق المتهم الذي كانت تفترض فيه الإدانة وقتئذ ؟ ولا شك أن المبرر في ذلك يعود إلى أن الإنسانية لم تكن إلى ذاك الوقت لم تكن قد تلمست فكرة افتراض البراءة بعد ، فالمبدأ آنذاك أن يسمح بالمساس بحرية الفرد ، قبضاً وتفتيشاً وحبساً احتياطياً دون أن يكون لذلك أي مبرر من ضرورات تحقيقي أو أمن مجتمع. أما حين عرف مبدأ أصل البراءة مع تعاظم صيحات الفلاسفة والمفكرين منتصف القرن الثامن عشر ، وحين تم تسجيل هذا المبدأ كأصل دستوري وإنساني ، فقد جاءت التشريعات مقررة لضمانات حال خضوع شخص لاتهام بارتكاب جريمة.
وإلى جانب ضمانة تفسير الشك لمصلحة المتهم استصحاباً للبراءة فيه ، فإن إلقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام تظل أهم نتائج مبدأ أصل البراءة. فهذه القاعدة لا يبررها – على حد قول المعارضين - طبيعة الخصومة الجنائية ، إذ لو صح قول هؤلاء أن من طبيعة الخصومة الجنائية أن يقع عبء الإثبات على عاتق الاتهام ، فكذلك يصح القول بأن من طبيعة الخصومة المدنية أن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعي. بيد أن عبء الإثبات يختلف كثيراً في كلتا الخصومتين. ففي الخصومة الجنائية يظل عبء الإثبات دائماً على عاتق الاتهام وسلطة الادعاء ، ولا يرتفع عن كاهلها إلا إذا نص القانون على ذلك صراحة ، فإذا فشلت تلك الأخيرة في هدم قرينة البراءة بإقامة الدليل القاطع على ذلك ، ظل المتهم على براءته ، ولا يكفي أن يبنى الاتهام على قول دون دليل ، ولا يكلف المتهم بإثبات براءته. أما في الخصومة المدنية ، فإن عبء الإثبات يمكن أن ينتقل إلى عاتق المدعي عليه الذي يصبح مدعياً يقع عليه عبء إثبات ما يدعيه إذا ما أثار دفعاً ، ولم يقتصر موقفه على مجر الإنكار. هذا كله لا يسري بحال في المجال الجنائي ، فالمدعى عليه لا ينقلب بمرافعته أو بدفعه مدعياً ، وذلك استبقاءً للبراءة التي تهيمن على كافة إجراءات الدعوى الجنائية ، بما فيها توزيع عبء الإثبات الجنائي.
ثانياً : التكريس الشرعي لمبدأ افتراض البراءة:
آيا ما بدا من نشأة وضعية غربية لأصل البراءة ، إلا أنه من الثابت أن هذا الأخير مبدأ إسلامي النسب. فالقاعدة الشرعية توجب أن الأصل براءة الذمة ، تلك القاعدة التي يتسع مجال تطبيقها ليشمل ليس فقط المجال الجنائي ، بل كافة فروع القانون المختلفة. وفي مقام الاتهام تفترض براءة من توافرت في حقه دلائل على ارتكاب جريمة ، ذلك أنه إن لم تفترض تلك البراءة ، فسوف يكون المتهم مطالباً بإثبات موقف سلبي يتمثل في عدم ارتكابه للجريمة ، وهو أمر يتعذر في كثير من الأحول تحقيقه ، ويوصل إلى انعقاد المسئولية في حق شخص على أساس الظن ، بما يعارض قول ربنا عز وجل "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " ، وقوله عز من قائل "وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا". ويتفرع عن ذلك أن البراءة شرعاً لا تزول بالشك ولا عقاب عند الظن ، مصداقاً لقول الرسول الكريم "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله فإن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
ولقد أسس الفقه الإسلامي أصل البراءة على قاعدة استصحاب الحال ، أي بقاء كل شيء على ما كان حتى يوجد ما يغيره أو يثبت خلافه. فالأصل إذاً استدامة إثبات ما كان منفياً أو نفي ما كان منفياً ، أي بقاء الحكم إثباتا ونفياً حتى ينهض الدليل المغير. وفي ذلك يقول العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله "الاستصحاب يؤخذ به في قانون العقوبات ، وهو أصل فيه ، لأن الأمور على الإباحة ما لم يقم نص يثبت التجريم والعقوبة ، وأن قضية المتهم برئ حتى يقوم دليل على ثبوت التهمة...هى مبنية على الاستصحاب ، وهو استصحاب البراءة الأصلية". واعتماداً على هذا التأسيس استنبط الفقه الإسلامي قاعدة أن ما يثبت باليقين لا يزول إلا بيقين مثله ، ولا يزول بالشك.
ويتسنى لنا هنا القول أن تحليل مبدأ افتراض البراءة من الوجهة الإسلامية يبرز ما لهذا المبدأ من قيمة كحق طبيعي ، نابع من الفطرة السليمة الذي جبل عليها الإنسان قبل هبوط الرسالات والعمل بالشرائع. فهذه الفطرة هى التي نسجت وشكلت قاعد أن الأصل في الأشياء الإباحة ، وأن الاستثناء هو التجريم والعقاب ، واستنتاجاً من هذا يتعين النظر إلى الإنسان بوصفه بريئاً ، إلى أن يخرج من دائرة الإباحة إلى دائرة التجريم بحكم القضاء. فالإنسان بفطرته يدرك أن فاعلية إدارة العدالة الجنائية وصون الحرية الشخصية للأفراد لا يتأتيان إلا باستصحاب البراءة التي تقررت للفرد منذ ميلاده خلال كافة مراحل عمره وحتى ولو خضع خلالها إلى اتهام جنائي. ولعلنا نلمح صدق هذا التحليل في عبارات المحكمة الدستورية العليا في مصر حين قالت أن : "أصل البراءة قاعدة أولية توجبها الفطرة التي جبل الإنسان عليها ، وتقتضيها الشرعية الإجرائية ، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية ، وبوصفها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة ، ليوفر بها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل ، وكان افتراض البراءة لا يقتصر على الحالة التي يوجد الشخص فيها عند ميلاده ، بل يمتد إلى مراحل حياته حتى نهايتها ، ليقارن الأفعال التي يأتيها ، فلا ينفصل عنها باتهام جنائي أياً كان أو الأدلة التي يؤسس عليها...هذا الأصل كامناً في كل فرد سواء كان مشتبهاً فيه أم متهماً".
اللهم اجعل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم ،
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
ساحة النقاش