إذا لم يتحقق شرط إثبات صحة النسب القذفية فلا محل للخوض في مسألة نية المتهم سليمة كانت أو غير سليمة إذ هذا البحث لا يكون منتجاً ما دام القانون يستلزم توفر الشرطين معاً للإعفاء من العقاب.
الحكم كاملاً
مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثالث (عن المدة بين 7 نوفمبر سنة 1932 وبين 26 أكتوبر سنة 1936) - صـ 161
جلسة 24 إبريل سنة 1933
برياسة سعادة عبد العزيز فهمي باشا وحضور حضرات مصطفى محمد بك وزكي برزي بك ومحمد فهمي حسين بك وأحمد أمين بك.
(107)
القضية رقم 1418 سنة 3 القضائية
قذف:
( أ ) قذف في حق موظف عمومي. حق محكمة النقض في تقدير القول أو الكتابة التي هي موضوع الدعوى.
(ب) شرط الإعفاء من العقاب. إثبات صحة الواقعة مع حسن النية.
(جـ) إثبات واقعة القذف. تركه أمام محكمة الموضوع. طلب إعادة القضية إليها لإمكان إثبات صحة الواقعة. لا يجوز إبداؤه لأوّل مرة لدى محكمة النقض.
(د) إثبات صحة الواقعة. عدم تحقق هذا الشرط. سلامة النية. لا محل للخوض فيه.
(المواد 148 و261/ 1 و262/ 1 و3 و168 ع)
1 - متى أثبت حكم ما صادر في جريمة نشر أن المتهم نشر فعلاً العبارات التي يؤاخذ بسببها كانت هذه العبارات هي هي نفس الواقعة المعزوة إلى المتهم والمثبتة بالحكم. ولا تستطيع محكمة النقض أن تفصل فيما إذا كان قانون العقوبات يتناولها أو لا يتناولها وهل طبق عليها تطبيقاً صحيحاً أم لا - لا تستطيع ذلك إلا إذا فحصتها وتعرفت ما فيها من الدلالات اللغوية وما لها من المرامي القريبة أو البعيدة. ومن أجل ذلك فلمحكمة النقض دائماً حق فحص تلك العبارات للغرض المتقدّم وتقديرها في علاقتها مع القانون التقدير الذي تراه مهما يكن رأي محكمة الموضوع في دلالتها وعلاقة هذه الدلالة بالقانون. أما القول بأن البحث في وقوع إسناد المطاعن إلى المجني عليه أو عدم وجوده هو مسألة موضوعية يفصل فيها قاضي الموضوع فصلاً نهائياً لا معقب عليه لمحكمة النقض فقول غير مقبول.
2 - القاذف في حق الموظفين العموميين لا يعفى من العقاب إلا إذا أثبت صحة ما قذف به المجني عليهم من جهة وكان من جهة أخرى حسن النية.
3 - إذا لم يثبت المتهم واقعة القذف المنسوبة إليه ولم يطلب من محكمة الموضوع إثباتها ثم طلب محاميه إلى محكمة النقض احتياطياً في حالة نقضها الحكم أن تعيد القضية إلى محكمة الموضوع ليتسنى له إثبات واقعة القذف متذرّعاً لذلك بأن تركه الإثبات لدى محكمة الموضوع كان على أثر الصلح الذي تم بينه وبين أحد المجني عليهم فمثل هذا الطلب لا يمكن إبداؤه لأوّل مرة أمام محكمة النقض. خصوصاً إذا كان ظاهراً أن محامي المتهم قد استنفد كل ما كان لديه من الدفاع ولم يكن في مرافعته أدنى ما يستشف منه أن المتهم كان في استطاعته إثبات واقعة القذف المعزوة إليه.
4 - إذا لم يتحقق شرط إثبات صحة النسب القذفية فلا محل للخوض في مسألة نية المتهم سليمة كانت أو غير سليمة إذ هذا البحث لا يكون منتجاً ما دام القانون يستلزم توفر الشرطين معاً للإعفاء من العقاب.
المحكمة
بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانوناً.
حيث إن الطعن قدّم وبينت أسبابه في الميعاد فهو مقبول شكلاً.
وحيث إن وقائع هذه المادة بحسب الثابت في الحكم المطعون فيه وما أشار إليه من أوراق الدعوى تنحصر في أن المتهم:
(أوّلاً) نشر في العدد رقم 160 من جريدة الجهاد الصادر بتاريخ 23 فبراير سنة 1932 مقالاً تحت عنوان "هل لوزير الأشغال صلة بشركة ثورنيكروفت؟ جاء فيه ما يأتي:
"وزير الأشغال شديد الحماسة في الدفاع عن شركة ثورنيكروفت شديد الرغبة في منحها احتكاراً لجميع خطوط القاهرة بغض النظر غضاً مطلقاً عن المساكين من مواطنيه أصحاب المصالح القديمة في تلك الخطوط - ما قضى فيه لمصلحة تلك الشركة وما لم يزل مصيره معلقاً في كفة القدر أو في كفة الشهوات".
"وقد تواترت في الأندية والمجالس وفي الدوائر العالية والمتواضعة وما بينهما إشاعات مؤداها - والعلم عند الله وعند صاحب السعادة عبود باشا وعند كبار المساهمين من إنجليز ومصريين مختفين - إشاعات مؤداها أن لصاحب السعادة إبراهيم فهمي كريم باشا سهوماً في تلك الشركة ليست قليلة العدد ولا ضئيلة الأرباح. وقد استبعد بعضهم أن يقدّم وزير الأشغال المنصب الأعلى في وزارة الأشغال على الاشتراك في عمل تجاري لوزارة الأشغال في تقريره وتوجيه مصيره وتوسيع نطاقه أو تضييقه نفوذ ليس يخفى على أحد بل هي صاحبة الرأي الأوّل والأخير فيه من الوجهة الفنية. فأجاب بعض من يزعمون العلم بدخائل الأمور بأن سعادة الوزير لم يساهم في الشركة باسمه وإنما أخوه أو بعض أقربائه أو لا أدري من هو الذي ساهم باسم الوزير...".
(ثانياً) نشر في العدد رقم 161 من هذه الجريدة الصادر في 24 فبراير سنة 1932 مقالاً ثانياً تحت عنوان "المساهمون المبرقعون في شركة ثورنيكروفت يحتالون لاتقاء الفضيحة فيفتضحون" يدور حول أن شركة ثورنيكروفت اندمجت في شركة سوارس لتنجو من شرط الاحتفاظ بنسبة معينة من رأس المال والعمال المصريين ومن إعلان أسماء أصحاب المعالي والسعادة والعزة المساهمين المبرقعين ممن قد يكونون موظفين وموظفين كباراً جدّاً إلى آخر ما تفهم من كلمة "جداً" من الدلالات أو ممن يكون اتصالهم بحضرات أصحاب السعادة الكبار جدّاً ذا دلالة واضحة مخزية فاضحة ممن لو عرفت أسماؤهم لكان فضيحة الفضائح إلخ..".
(ثالثاً) نشر في العدد رقم 162 الصادر في 25 فبراير سنة 1932 مقالاً ثالثاً تحت عنوان "اقرأوا واعجبوا أيها المصريون" عبود باشا وحده يملك أكثر من 52 في المائة من سهوم شركتي ثورنيكروفت وسوارس مندمجتين فماذا تقولون وماذا تقول جاء فيه ما يأتي:
"اسمعوا أيها المصريون العقلاء ثم احكموا بما ينتجه لكم المنطق في أبسط صوره وأشكاله، ولا تفكروا طويلاً لأن المسألة على ما نظن لا تحتاج من حضراتكم إلى تفكير طويل.
قلنا لكم أيها السادة القرّاء غير مرة إن الإشاعة مستفيضة بأن بعض المصريين من ذوي النفوذ الكبير في هذا العهد يملكون سهوماً كثيرة في شركة ثورنيكروفت الإنجليزية وإنهم يكتمون أسماءهم حتى لا يقال إن لنفوذهم اتصالاً وثيقاً بما أحرزته تلك الشركة من تسهيلات غير مشروعة.
وقلنا إن بعض تلك الإشاعات كان يتناول من بعيد أو قريب حتى صاحب السعادة وزير الأشغال نفسه فلما سأل حضرة محمد أفندي عبد الكريم عسران سؤاله بهذا الشأن وأجاب عنه دولة صدقي باشا بما أجاب من نفي مشبع بروح الامتعاض والاستياء الشديد من إلقاء السؤال.. .. نقول لما أجاب دولته بنفي الأمر عن زميله لم يسعنا بالطبع سوى التصديق والاقتناع كما صدّق واقتنع صاحب السؤال آخر الأمر.
لكن إحدى جرائد المساء نشرت في عددها البارحة بياناً بتوزيع السهوم. وهذا البيان هو الذي نرجو أن نسترعى إليه أنظار المصريين العقلاء على أن يصدروا فيه حكمهم ولو بينهم وبين أنفسهم ولن يحتاج إصدار حكمهم إلى تفكير طويل... والآن أرجو أيها القارئ الكريم أن تقرأ الأرقام وأن تزن الأقدار وأن تقارن بين ما يملكه حضرة صاحب السعادة عبود باشا وحده. نعم وحده بلا شريك ظاهر أو مستور، موظف أو من أصحاب الأعمال الحرّة. يا لها من همة ويا لها من قدرة مستمدّة من عبقرية هذا العهد تلك التي مكنت لعبود باشا وحده دون شريك مستور أو ظاهر من الموظفين أو غير الموظفين! يا لها من قدرة تكاد تصل إلى حدّ الإعجاز! لزمتنا الحجة إذن وأسفر الصبح لذي عينين لا سيما إذا كانت عيناه مجرّدتين من كل منظار مكبر كالميكروسكوب أو مقرّب كالتلسكوب. نعم لزمتنا الحجة وأسفر الصبح لذي عينين تريان الأشياء في صورها الرسمية الظاهرة التي لا مطعن فيها من حيث الأشكال والأوضاع...".
وختم المقال بقوله: "ولكنه قد تكون قسوة منه (عبود باشا) وجفاءً شديداً يشبه الأثرة أن يستحوذ لنفسه وحدها 52 في المائة من هذه السهوم الخصبة المثمرة دون أن يشرك أصدقاءه الأوفياء الكثيرين في هذه الفرصة الذهبية فينزل لهذا عن ألف وذاك عن ألفين من تلك السهوم ولو بثمنها الصحيح. لكن ما لنا ولهذه المجاملات الشخصية ما دام هو المالك الوحيد لهذه السهوم دون شريك ظاهر أو مستور. وكل مالك حر فيما يملك والله أعلم".
فرفعت النيابة العمومية عليه الدعوى لدى محكمة جنايات مصر طالبة عقابه بالمواد 148 و261 فقرة أولى وثانية و262 فقرة أولى وثالثة و168 لقذفه في حق إبراهيم فهمي كريم باشا وزير الأشغال العمومية وبعض الوزراء الآخرين وفي حق أحمد محمد عبود باشا بالصيغة المبينة في ديباجة هذا الحكم. وقد دخل عبود باشا مدّعياً بحق مدني طالباً التعويض لما ناله من الإساءة بسبب هذا الطعن.
وعقب المرافعة في الدعوى قرّر المحامي المدافع عن المتهم أن موكله لم يقصد أحداً من المجني عليهم بسوء، وعندئذ تنازل وكيل عبود باشا عن دعواه المدنية. وقبل الحكم في الدعوى قدّم المحامي عن المتهم أيضاً خطاباً من موكله يؤيد فيه أنه لم يقصد أحدا من المجني عليهم بسوء.
ومحكمة الجنايات حكمت ببراءة المتهم. وجوهر ما قام عليه حكمها:
(1) أن تعرّض المتهم للموضوع الذي كتب فيه إنما كان على أثر ما نشرته جريدة المقطم من أن أحد أعضاء مجلس النوّاب وجه بالمجلس سؤالاً إلى وزير الأشغال إبراهيم فهمي كريم باشا يستعلم فيه عما إذا كان مساهماً في شركة ثورنيكروفت وهل من الجائز أن يكون مساهماً فيها مع أنها تحت إشرافه ولو كان إشرافاً غير مباشر. كما أن تعرّضه لعبود باشا إنما كان بناء على أنه هو الساعي في تأسيس هذه الشركة وله ثلاثة أرباع أسهمها، وأن كتابة المتهم في هذا الموضوع إنما كانت لأن الشركة احتكرت بعض الخطوط بمجرّد تصريح وزير الأشغال على خلاف الدستور وأنها في عملها أخلت ببعض الشروط الواجب عليها مراعاتها.
(2) "أن عبارات المقالات قد يفهم منها جنوح المتهم إلى إقناع القارئ بصدق ما اتهم بإسناده إلى وزير الأشغال وبعض الوزراء إلا أن مرجحات هذا الفهم تتعارض مع ما دلت عليه ظروف الدعوى من أن المتهم تعرّض للتعليق على ذلك السؤال قبل علمه بالتكذيب الذي صرح به رئيس الوزراء في بيانه الذي ردّ به في المجلس على السؤال وقبل علمه بالاعتبارات التي بينها وكيل عبود باشا بالجلسة نفياً لما أثارته تلك المخالفات من دوافع الانتقاد" - تقول المحكمة هذا ثم تردفه بقولها: "إن هذا يؤيد أن البواعث التي دفعت المتهم إلى ذلك التعليق كانت مبنية على حسن القصد الذي قد يسوق صاحبه إلى التعبير عن غرضه في مثل هذا المقام بعبارات يمكن حملها على تعريضات غير مقصودة وإنها لذلك طلبت من المتهم أن يصرح علناً بالجلسة بأنه لم يقصد توجيه هذا القذف لأحد من المجني عليهم حتى يرتفع كل شك علق بذهن القارئ في شرفهم وكرامتهم، وقد صرح وكيله بذلك وتلا كتاباً بهذا المعنى. كما أن وكيل عبود باشا تنازل عن دعواه المدنية مكتفياً بهذا التصريح معتبراً إياه نافياً لكل مساس بشرفه".
وحيث إن النيابة العامة طعنت في هذا الحكم لأسباب حاصلها ما يأتي:
(1) أن المحكمة أخطأت في قولها إن تعرّض المتهم للتعليق على السؤال كان قبل علمه بالتكذيب الذي صرح به رئيس الوزراء ردّاً على السائل إذ المقالان الثاني والثالث نشرا في 24 و25 فبراير بعد هذا التكذيب الذي كان في مساء 23 فبراير. وإن هذا الخطأ هو الذي جر المحكمة إلى قولها بسلامة نية الطاعن.
(2) أن محكمة الجنايات أخطأت في تطبيق القانون لأن المتهم ذكر في مقاله الأوّل أن الإشاعة متواترة بأن لوزير الأشغال أسهماً في شركة ثورنيكروفت وأنه لذلك شديد الحماسة في الدفاع عنها، ثم كتب مقاليه الثاني والثالث بقصد تأكيد تلك الإشاعة وحمل الناس على عدم تصديق التكذيب، وفي هذا قذف صريح كما يعلم من عبارات المقالات نفسها، وأنه لا محل للقول بسلامة النية فإن سوء النية يفترض من مجرّد استعمال عبارات مقذعة. ومن جهة أخرى فإن لسلامة النية التي تعفى من العقاب شرائط مقرّرة هي أن يكون موجه الانتقاد معتقداً في ضميره صحته وأن يكون قدّر الأمور قدرها وأن يكون انتقاده للمصلحة العامة لا لسوء القصد فإن فهم قاضي الموضوع سلامة النية على غير هذا الوجه كان حكمه واقعاً تحت رقابة محكمة النقض.
(3) أن القانون يشترط للإعفاء من العقاب أن يثبت القاذف صحة وقائع القذف وذلك فوق اشتراط حسن النية، والمتهم لم يثبت صحة ما قذف به.
(4) أن مجرّد اعتذار القاذف بالصفة التي أشار إليها الحكم لا يبرر رفع المسئولية.
ولذلك طلبت النيابة قبول الطعن ونقض الحكم وتطبيق القانون. وقد صممت النيابة بجلسة المرافعة على ما ورد بتقرير الأسباب المقدّم منها.
أما محامي المتهم فيتحصل دفاعه فيما يلي:
(1) إن المقال الثاني الذي نشر في العدد الصادر بتاريخ 24 فبراير كان نشره قبل أن يعلم المتهم بالتكذيب الذي ألقاه رئيس الوزراء بمجلس النوّاب في مساء 23 فبراير. ذلك بأن جريدة الجهاد هي من جرائد الصباح التي تجهز وتطبع في مساء اليوم السابق على تاريخها فرئيس الوزراء ألقى ردّه في الوقت الذي كان المتهم يجهز فيه المقال المذكور وقد جهزه غير عالم بالتكذيب خصوصاً وأنه ليس له مندوب بالمجلس. وإذن فلا خطأ فيما ذكرته محكمة الموضوع من أنه علق على السؤال قبل علمه بالتكذيب.
(2) إن قوام جريمة القذف أن يقع إسناد مطاعن شائنة إلى المجني عليه، ووقوع الإسناد وعدمه مسألة موضوعية بحتة متى ارتأى فيها قاضي الموضوع رأياً فهو نهائي لا رقابة لمحكمة النقض عليه. ومحكمة الموضوع في الدعوى الحالية قد نفت وقوع هذا الإسناد وهذا ينهار معه طعن النيابة.
(3) إن محكمة الموضوع على كل حال أثبتت سلامة نية الطاعن وهو في الواقع سليمها إذ أنه بمجرّد ما بلغه خبر التكذيب نشر مقاله الثالث مفيداً اقتناعه بهذا التكذيب.
وحيث إنه متى أثبت حكم ما صادر في جريمة نشر أن المتهم نشر فعلاً العبارات التي يؤاخذ بسببها كانت هذه العبارات هي هي نفس الواقعة المعزوّة إلى المتهم والمثبتة بالحكم. ولا تستطيع محكمة النقض أن تفصل فيما إذا كان قانون العقوبات يتناولها أو لا يتناولها وهل طبق عليها تطبيقاً صحيحاً أم لا - لا تستطيع ذلك إلا إذا فحصتها وتعرّفت ما فيها من الدلالات اللغوية وما لها من المرامي القريبة أو البعيدة. ومن أجل ذلك فلمحكمة النقض دائماً حق فحص تلك العبارات للغرض المتقدّم وتقديرها في علاقتها مع القانون التقدير الذي تراه مهما يكن رأي محكمة الموضوع في دلالتها وعلاقة هذه الدلالة بالقانون. ولقد أصبح هذا مبدأً مقرراً ثابتاً لا يمكن العدول عنه بحال لما في هذا من تعطيل وظيفة محكمة النقض في هذا الخصوص وصدّها عن القيام بواجبها فيه.
وحيث إنه يبين من ذلك أن ما دفع به المحامي عن المتهم من أن قاضي الموضوع فصل في أمر الإسناد بعدم وجوده ومن أن فصله فيه نهائي لا معقب عليه لمحكمة النقض - ما دفع به من ذلك هو على فرض صحته غير مقبول. بل إن لمحكمة النقض - كما تقدّم - الحق دائماً في تقدير القول أو الكتابة التي هي موضوع الدعوى والتي أثبتها الحكم لمعرفة توافر الإسناد فيها وعدم توافره وهل قاضي الموضوع أخطأ التقدير أم أصاب.
وحيث إن الواقع أن الحكم المطعون فيه لم يستبعد الإسناد كما هو مقول بل إنه على العكس من ذلك بدأ في هذا الصدد بقوله: "إن عبارات المقالات قد يفهم منها جنوح المتهم إلى إقناع القارئ بصدق ما اتهم بإسناده إلى وزير الأشغال وبعض الوزراء إلا أن مرجحات هذا الفهم تتعارض...إلخ" فالحكم بهذا أفاد إفادة صريحة أن تلك العبارات قد تفيد بمدلولها اللغوي جنوح المتهم إلى إقناع القارئ بصدق ما اتهم بنسبته إلى الغير، وأن لهذه الإفادة مرجحات. ولا شك أن هذا القدر من جانب محكمة الموضوع كافٍ في إفادة ما خامرها مبدئياً من قيام الإسناد. وذلك على الرغم من وجود لفظة "قد" التشكيكية التي استعملتها.
أما ما ذكره الحكم بعد من أن مرجحات هذا الفهم تتعارض مع ما دلت عليه ظروف الدعوى من أن تعرّض المتهم للمجني عليهم كاف قبل علمه بالتكذيب الرسمي وقبل علمه بالاعتبارات التي أوردها وكيل عبود باشا نفياً لما أثارته تلك المخالفات من دوافع الانتقاد - ما ذكره الحكم من ذلك وما رتب عليه من سلامة نية المتهم في تعرّضه للمجني عليهم، كل ذلك ظاهر أن فيه انتقال نظر إذ دلالة العبارات لا تتغير بالزمان ولا بالمكان ولا بظروف الأحوال بل هي هي واحدة سواء أكان واضعها وضعها من قبل التكذيب أو من بعده ومن قبل علمه بما ينفي دواعي الانتقاد أو من بعده وسواء أكان قالها سهواً أو خطأً أو عمداً بسلامة نية أو بسوء قصد إذ لا شيء من ذلك يتعارض مع مفهومها الذي أشارت إليه محكمة الموضوع بل كل هذا بحث في البواعث والدوافع فهو في واد ومفهوم العبارات الذي أشارت إليه المحكمة في واد آخر. يبقى إذن أن المحكمة لم تورد على أصل عبارتها أدنى ما يتعارض معها وبقيت تلك العبارة على حالها ما دام ذلك الذي قالت إنه تعارض يهدمها راجعاً كله إلى سلامة النية وهي شيء آخر إن صح فله حكمه القانوني وهو رفع العقاب المترتب على الإسناد لا إزالة الإسناد.
وحيث إنه بقطع النظر عما أشارت إليه محكمة الجنايات، وبقطع النظر عما إذا كان المتهم نشر مقاله الثاني قبل علمه بالتكذيب الذي أدلى به رئيس الوزراء بمجلس النواب في مساء 23 فبراير - بقطع النظر عن كل ذلك فإن أي مطلع على المقالات الثلاث المذكورة يفهم منها بطريقة لا ريب فيها أن المتهم يحاول جاهداً أن يقنع قرّاءه بأن إبراهيم فهمي كريم باشا وزير الأشغال وغيره من وزراء الدولة ممن لم يسمهم بالذات يحابون شركة سيارات ثورنيكروفت في نظير أسهم امتلكوها، وأنهم - إخفاء لهذا الامتلاك عن أعين الناس وخشية من الفضيحة والعار - اتخذوا من عبود باشا ستاراً لهم ليقيهم التعرّض لنقد الناقدين، وأن مصلحتهم هذه هي التي دفعتهم إلى أن يتركوا الشركة تسير عرباتها في أنحاء القاهرة وتتمتع باحتكار فعلي غير قائم على أساس موافق للدستور والقوانين. هذا هو الذي يفهمه المطلع على تلك المقالات وذلك على الرغم من الأساليب الملتوية التي ظن الكاتب أنها تخفي مراده مع كونها لا تزيده في أنفس القراء إلا ظهوراً وتأكداً.
وحيث إنه لا شك أن فعلة المتهم هذه هي قذف واضح على الوجه الذي اتهمته به النيابة يقع تحت متناول المواد 148 و261 فقرة أولى وثانية و262 فقرة أولى وثالثة و168 من قانون العقوبات. ولا يعفيه من العقاب إلا أن يكون من جهةٍ أثبت صحة ما قذف به المجني عليهم، وأن يكون من جهةٍ أخرى حسن النية كما هو مقتضى الفقرة الثانية من المادة 261 عقوبات.
وحيث إن المتهم لم يثبت ولم يطلب من محكمة الموضوع إثبات واقعة القذف المتهم هو بها بل هو أقرّ لديها في نهاية الأمر بما يفيد عجزه عن إثبات امتلاك إبراهيم فهمي كريم باشا وزير الأشغال أو غيره من الوزراء لشيء من سهام الشركة واقتناعه بما قدّم عبود باشا من مستندات وتسليمه بأن هذا الأخير لم يكن في امتلاكه لما يمتلكه من تلك السهوم ستاراً لأحد.
وحيث إن محامي المتهم طلب إلى محكمة النقض احتياطياً في حالة نقضها الحكم ألا تطبق القانون بل تعيد القضية إلى محكمة الموضوع ليتسنى له إثبات واقعة القذف المتقدّم متذرّعاً لذلك بأن تركه الإثبات لدى محكمة الموضوع كان على أثر الصلح الذي تم بينه وبين عبود باشا.
وحيث إن هذا الطلب لا يمكن إبداؤه لأوّل مرة أمام محكمة النقض. على أنه بالاطلاع على محضر جلسة محكمة الموضوع رؤي أن محامي المتهم قد استنفد كل ما كان لديه من الدفاع وأفاض في ذلك إفاضة مطوّلة في جلستين متتاليتين كما أفاض وكيل عبود باشا في دفاعه أيضاً. وليس في مرافعة الطرفين أدنى ما يستشف منه أن المتهم كان في استطاعته إثبات واقعة القذف المذكورة وأن عدم إثباته إياها لم يكن إلا لسبب الصلح المقول به.
وحيث إنه مع عدم تحقق شرط إثبات صحة النسب القذفية لا محل للخوض في مسألة نية المتهم سليمة كانت أو غير سليمة إذ هذا البحث غير منتج ما دام القانون يستلزم توفر الشرطين معاً للإعفاء من العقاب.
وحيث إنه لجميع ما تقدّم تكون التهمتان المسندتان إلى المتهم متوافرة أركانهما القانونية وعقابه عليهما يقع تحت نصوص المواد 148 و261 فقرة أولى وثانية و262 فقرة أولى وثالثة و168 من قانون العقوبات مع ملاحظة تطبيق المادة 32 منه للارتباط بينهما.
وحيث إن المحكمة ترى استعمال الرأفة مع المتهم والاكتفاء بتغريمه لأنه لم يسبق الحكم عليه بعقوبة ما قبل وقوع هذه الجريمة منه ثم لما كان منه من الاعتذار عنها.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه وبمعاقبة محمد توفيق دياب أفندي بغرامة قدرها خمسون جنيهاً مصرياً.
ساحة النقاش