موسوعة المؤرخ بسام الشماع

باحث المصريات بسام رضوان الشماع

مقال بعنوان : العيش حضارة صنعها المصريون


يقدس المصريون الخبز، إذا وجد أحدهم لقمة في طريقه يرفعها من علي الأرض، ينفض عنها التراب، يقبلها ويضعها علي جبينه، قبل أن يصونها في مكان آمن بعيدا عن الأقدام، ويسمي المصريون العيش بـ" النعمة" ويدعون الله بعدم زوالها، يتخذونه رمزاً للعشرة، ومرادفاً للحياة ودليلا علي السعة.

ارتبط المصريون القدماء بالخبز، رسموه علي جدران معابدهم ومقابرهم وصنعوا للمرأة أمام الفرن تماثيل وارتبط بأمثالهم وأغانيهم، وشاركهم مناسباتهم، واحتفالاتهم وكانت كلمتهم الرابحة في ثورة 25 يناير المجيدة.


تعرف المرأة الصعيدية قيمة "العيش"، تخصص له حجرة في البيت تحتفظ فيها بالدقيق قبل العجين، والأرغفة بعد الخبيز، والأواني التي تستخدمها في إعداده، تمارس طقوسها في ليلة الخبيز، وتفرض علي البيت حالة من الطوارئ في الصباح التالي وهي تعجن، وتقطع الأرغفة، وتجلس أمام الفرن تواجه ألسنة النيران بالصبر وإشباع فضول الصغار.

وإذا كان الصعيد ينتج العيش الشمسي وهو خبز أسمر يزيد سمكه عن 5سم، ونجد منه نوعاً له ثلاث قرون يسمي الرغفان ينتشر في قنا ويؤكل طريا طازجا أو يقطع شرائح ثم يدخل الفرن مرة أخري ليتم تحميصه، فإن محافظات الوجه البحري تعرف أنواعا أخري من الخبز.

ووفق دراسة "أطلس للمأثورات الشعبية" التي شارك في إعدادها عشرات من الباحثين في محافظات مصر المختلفة فإن هناك أنواعا عديدة من الخبز منها: الرغيف البلدي الأسمر الذي يباع في الأفران بخمسة قروش وينتشر في أغلب المدن والقري.

أما العيش البيتي فيشبه ما كان يخبز في بعض البيوت أيام وجود أفران العيش وهو أكثر جودة وبدون دعم ويوجد منه الطري والمحمص.

بينما العيش الفلاحي ويندرج تحته عدة أنواع: المرحرح والبطاطي والبتاو والبط  وهو خبز كان يصنع من الذرة بإضافات قليلة من القمح ثم أصبح بعد ذلك يصنع بنسب متقاربة من القمح والذرة وهو منتشر في أغلب قري الجمهورية من الوجه البحري والقبلي مع بعض الاختلافات في الإضافات التي كانت تضاف إلي الذرة حيث نجدهم في الشرقية وفي الإسماعيلية وبعض قري الدقهلية والغربية والمنوفية بالإضافة إلي صعيد مصر نجدهم يضيفون الحلبة إلي الذرة كما كان يوجد في الغربية والدقهلية ما يعرف بخبز البامية وهذه التسمية تأتي في إضافة طحين البامية إلي دقيق الخبز. وهناك في كفر الشيخ يخلط بالشعير نظراً لانتشار زراعة الشعير هناك وأيضا نظراً لانتشار زراعة الأرز في كفر الشيخ حيث خلط كيلة أرز مع جوال الغلة لعمل الخبز.

ويصنع البكوم من دقيق القمح ونفس عجينة الخبز البلدي الطري،في حين يعتمد  خبز الشعير علي دقيق الشعير وينتشر في الوادي الجديد وبخاصة في منطقة الخارجة.

 وتختلف لفظة البتاو من مكان لآخر وهي كلمة مصرية قديمة تعني الخبز فيطلقون كلمة بتاو علي العيش المرحرح بينما نجدهم يطلقونها علي رقاقات صغيرة الحجم تصنع من الدقيق واللبن في محافظة الشرقية.

والهبورية والكسرة هي خبز من الذرة والردة وبعض القمح وتختلف الكسرة عن الهبورية في أن الكسرة اكثر اتساعا من الهبورية وتنتشر في البحر الأحمر إلي جانب العيش الشمسي ذي الأربعة قرون ويسمي أبو قرون.

وهناك نوع من الخبز يخبز علي الحجارة وينتشر في منطقة حلايب بالبحر الأحمر وهو الدامبرت. 

وفي توشكي وأسوان يصنعون الشد وهو خبز من الذرة والقمح وهو رقيق جدا في سمكه ويخبز في الدوكا الصاج، كما يصنع  الخنريت من دقيق الذرة العويجة ودقيق القمح كما يطلقون عليه الدوقه في منطقة كلابشه بأسوان أيضا، والكابد  مثل الشدي إلا أنه أكثر سمكاً منه وهو أيضا موجود في توشكي.

وفي شمال سيناء يعرف الخبز بالصاج وهو خبز رقيق من دقيق القمح يبلغ قطره 45سم وسمكه 2 ملم، بينما  الخامر خبز يصنع في البيت ويكون في حجم الرغيف البلدي.

ويعتبر المجردق خبز طوارئ يصنع بدون خميرة ويسوي علي الصاج وهو يشبه الرقاق إلا أنه يؤكل طريا وينتشر هذا الخبز في مطروح، وربما اختلفت المسميات من مكان إلي مكان فنجد النوع الواحد في بعض الأحيان يأخذ أسماء مختلفة باختلاف المنطقة التي يوجد فيها، هذا بخلاف بعض أنواع الخبز التي تصنع خصيصا لمناسبات خاصة أو لأغراض خاصة غير الغرض الرئيسي للخبز ليغمس به الطعام.

ويصف المؤرخ وكاتب المصريات بسّام الشماع، المصري بأنه صاحب حضارة خبز، لافتا إلي أن مقبرة سقارة وجد فيها المتوفي أمامه أرغفة الخبز المنحوتة علي الجدران، كما تم العثور علي  أول رغيف فينو طويل (الفرنساوي).

ويشرح أن حرف التاء في اللغة الهيروغليفية يعني نصف رغيف عيش مستدير واسم الخبز بالهيروغليفي (ت) والخبز الأبيض ت حيدج. كما أن المصري في المتحف الزراعي بالدقي وجد معه أول رغيف بداخله أشياء تؤكل "الحواوشي"، ووجد معه أيضا أول كرواسون فرعوني محنط وجاف، كما ابتكر الفرعوني أول فكرة بيتزا، حيث وضع الرغيف مستديرا وعليه بعض الأطعمة، واستخدم الزهور التي لها طعم في عمل الأرغفة، فصنع منها رغيفا علي هيئة كعكة منتفخة.

ويقول: لدينا تماثيل توضح الفلاحة المصرية وهي تعجن في الماجور، ومناظر منحوتة لفرن، وسيدة أمامها ترضع طفلها وتضع يدها علي جبهتها كدليل علي معاناتها أمام النار.

ويضيف: الخبز له عدة أشكال في مصر القديمة، منها ما يشبه المثلث، مشيرا إلي أنه من ضمن النظريات المكتوبة أن اليونانيين يعتقدون أن الهرم يشبه مخبوزا معينا في بلادهم وهو ما جعل اسمه مرتبطا بالمثلث (الفطيرة المثلثة)، موضحا أن القرابين والهدايا احتوت علي أعداد كبيرة من الخبز بنوعيه الأبيض والأسمر، ويوجد بالمتحف المصري ساندوتش ملفوف كهدية..

ويستطرد: اكتشف سليم حسن مقبرة لرخني رع وهو وزير مشهور في عهد تحتمس الثالث وعليها رسومات توضح طريقة عمل الفلافل. 

ويذكر الباحث في الفولكلور الشعبي مسعود شومان مجموعة من الأمثال التي تستدعي الخبز كدال مهم في منظومة قيم الجماعة الشعبية ومنها: قفاه يقمر عيش .. إدي العيش لخبازه ولو ياكل نصه. . الجعان يحلم بسوق العيش.. اللي ياكل عيش اليهودي يحارب بسيفه. . اللي ياكل عيش السلطان يضرب بمزماره. 

ويقول: كل مثل يقدم إضاءات مهمة لا تخلو من إشارات اجتماعية وسياسية والعيش هنا يمثل المفردة المشعة داخل التركيب اللغوي. . فضلا عن الرقي التي تتغني بها السيدات وهن يقمن بعملية العجين والخبيز فهن يؤنسن الخبز: يا عجين أخمر وفور.. واملا الفرن فرح ونور. . ودوما يكون هناك تشهد علي العجين والصلاة علي النبي مع خروج العيش من الفرن. ويرتبط العيش بالعادات والتقاليد حيث يوزع كنفحة مع اللحم والأرز في موالد الأولياء أو كرحمة علي روح الميت.. كما يوضع رغيف مع سكينة تحت مخدة المولود الجديد درأ لشره فتخيفه السكين.. وإذا كان جائعا فعليه برغيف العيش ليبتعد عن المولود وكانت السيدات ترسل للحداد سبعة أرغفة تم شحاذتها من سبع فاطمات.. أي رغيف من كل فاطمة ليقوم بدق خلخال للطفل المولود ليدرأ عنه العين.

وتؤكد الدكتورة حنان سالم أستاذ علم الاجتماع المساعد بجامعة عين شمس، أن المصريين هم أصحاب أول ثورة زراعية جعلت من مصر قبلة للجوعي حين عم القحط في أنحاء البلاد، وكانت مصر صومعة للغلال قصدها الناس أفواجا من كل الأنحاء.

وتضيف: المطالبة بـ"العيش" كانت الشعار الأول لثورة يناير 2011 التي خرج فيها الملايين من أبناء الشعب لإزاحة نظام جعلهم يقتتلون أمام الأفران من أجل الحصول علي رغيف خبز من المفترض أنه حق من حقوقهم المشروعة.

وتوضح أن الخبز اسم مشترك في "لمة" المصريين، يجتمعون حوله في المناسبات المختلفة، سواء في الأعياد أو في شهر رمضان الكريم، ويضربون حوله الأمثال التي تشير إلي أهميته القصوي في حياتهم.

المقال نشر باخر ساعة 

05/04/2016 10:17:46 ص 

الدخول للمقال من هنا 


   

bassamalshammaa

المؤرخ بسام الشماع

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 142 مشاهدة
نشرت فى 8 إبريل 2016 بواسطة bassamalshammaa

باحث المصريات بسام رضوان الشماع

bassamalshammaa
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

121,190