لم تكن ثمة حاجة إلى خطاب أوباما في الجمعية العامّة لهيئة الأمم المتحدة، للتأكد أننا أمام رئيس صهيوني في فكره وأيديولوجيته ونظرته إلى قضية فلسطين، وقد فاق في ذلك كل من سبقه من رؤساء أمريكيين بمن فيهم بيل كلينتون وجورج دبليو بوش.
عدّة تصريحات وخطابات وبرقيات عبّر باراك أوباما من خلالها عن موقف صهيوني أيديولوجي ومبدئي يتجاوز السياسة، ولهذا لم يكن كثيراً أن يندهش نتنياهو بإعجاب لما ورد في خطاب أوباما الأخير في الجمعية العمومية، ولم يكن عجيباً أن تصفه أشدّ الصحف تطرفاً في الكيان الصهيوني بأنه "خطاب صهيوني".
لم يكن من حق الذين رحبوا بتسلم أوباما رئاسة جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية أن يعقدوا عليه "أي أمل" بسبب أصله العرقي أو العائلي أو بعض مواقفه التي انتقد فيها إدارة المحافظين الجدد بالعداء للإسلام والعالم الإسلامي، وذلك لأن الديمقراطية الأمريكية ذات مؤسّسات لها أنياب ومخالب. وليست ديمقراطية سائبة يمكن أن يتسلل إلى رئاستها رئيس غير مضمون من حيث ولائه المطلق للنظام الأمريكي ولاستراتيجيته وأيديولوجيته، وفي المرحلة الأخيرة ليس مضموناً في ولائه للصهيونية الأمريكية. ولم يعد كافياً ذلك الانحياز الأمريكي التقليدي لأمن الكيان الصهيوني والحفاظ على وجوده، فالمطلوب التماهي بسياسات حكوماته في لحظتها الراهنة.
هذا الشرط الأخير مستجد بسبب تحوّل مراكز الضغط الصهيونية الأمريكية إلى جزء قيادي داخل القرار الأمريكي، وهو ما يجب أن يتنبّه إليه كل من يتعاطى والسياسات الأمريكية أكان مناهضة أم كان تعاوناً وتبعية، وسواء أكان من السابقين أم اللاحقين.
كانت آخر تجربة على المدى الذي وصلته مراكز القوى اليهودية الأمريكية الصهيونية داخل القرار الأمريكي قد جاءت من محاولة أوباما ومن ورائه مؤسّسة الجيش الأمريكي لإطلاق مفاوضات لإيجاد تسوية ما، حيث تغلبت تلك المراكز على تلك المحاولة التي طالبت حكومة نتنياهو بوقف جزئي شكلي للاستيطان. فما كان من أوباما وقيادة الجيش إلاّ التراجع. ثم جاءت حفاوة الكونغرس من خلال مجلسيْه (للشيوخ والنواب) بخطاب نتنياهو كما لم يحدث من قبل لرئيس أمريكي ناهيك عن رئيس لحكومة في الكيان الصهيوني ("ربيب أمريكا" أو "قاعدتها العسكرية الأمامية") وذلك تأكيداً على أن أمريكا أصبحت محكومة من قِبَل الأقلية اليهودية الصهيونية الأمريكية وحلفائها من قوى أمريكية مصهينة.
أوباما تعدّى بصهينته السياسة إلى صهينة أيديولوجية ومبدئية، فقد أنكر أي حق تاريخي للفلسطينيين في فلسطين حين أعلن "أن فلسطين التاريخية هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي". وتنكر علناً للقانون الدولي الذي يُعطي الشعب العربي الفلسطيني حق تقرير المصير في فلسطين كلها، وهو الحق الذي أعطاه القانون الدولي لكل شعب كان موجوداً في البلد وقت وقوعه تحت الهيمنة الاستعمارية.
خطاب أوباما الأخير ربط قيام دولة فلسطينية، على الرغم من أكثر شروطها تنازلاً، بالمفاوضات، وهذا يعني أنها منحة من الكيان الصهيوني، وبالقدر الذي يوافق عليه، وبالشروط التي يضعها. ولهذا استحق أن يُعد خطاباً صهيونياً بامتياز.
ثمة بُعدان لهذه الإشكالية الأولى تخصّ كل فلسطيني وعربي ومسلم يمدّ يد الصداقة للإدارة الأمريكية في مرحلتها المستجدة؛ فإذا كان مدُّ يد الصداقة أيام إيزنهاور خطأً فاحشاً وكبيراً فإنه اليوم خطيئة مميتة لا تغتفر. إنها اليوم يد ممدودة لنتنياهو، عملياً، ولا مجال للعب دور النعامة حين تضع رأسها في الرمال.
هذه الحقيقة يجب أن يعرفها كل معارض لنظامه عربياً، وكل من انتصرت ثورته في مصر وتونس وليبيا، وكل من كان على تحالف قديم مع أمريكا. ويجب أن يعرفها قبل هؤلاء أي فلسطيني يراهن على أمريكا ولا سيما من عقدوا معها الاتفاق الأمني في الضفة الغربية وهو اتفاق صهيوني بامتياز، ومن قبِلوها راعية لعملية التسوية المدمِّرة، أصلاً، قبل أن تتصهين الإدارة الأمريكية إلى الحدّ الذي فعلته إدارة أوباما العتيدة.
أما البُعد الثاني فيتعلق بأمريكا نفسها، وفي الطريق كما يبدو بأوروبا كذلك؛ لأن سيطرة ما كان يُسمّى اللوبي الصهيوني على الإدارة الأمريكية والقرار الأمريكي يعني فقدان البروتستانت البيض الأنكلو-سكسون الأمريكيين (الواسبس) للجزء القيادي في سلطة احتكروها منذ الاستقلال، الأمر الذي يعني انقلاباً في أساسات المكوّن الأمريكي للدولة والمصالح العليا والإستراتيجية، ومن ثم يعني ولادة تناقض داخلي خطير لا بدّ له من أن يتفجّر، وهنالك إشارات كثيرة، ولو متواضعة، على رفض هذه المعادلة الجديدة في السلطة والدولة والإستراتيجية والسياسات (لا سيما الخارجية) من دون أن يُغفَل تأثيرها الأيديولوجي والثقافي كذلك.
فمن هذه المؤشرات الأخيرة تصريحات روبرت غيتس وزير الدفاع السابق في إدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما، كما تصريحات بيل كلينتون الرئيس الأمريكي الأسبق؛ فالرجلان أبديا تذمراً ملحوظاً من سياسات حكومة نتنياهو، الأمر الذي يتضمن احتجاجاً غير مباشر على النفوذ الصهيوني الأميركي الذي يدعم سياسات نتنياهو ويفرض على إدارة أوباما الخضوع لها حتى في جزئيات يمثل القبول بها من جانب أمريكا مذلة ويلحق بها ضرراً وخسائر.
وبالمناسبة، إن الحريصين على "صداقة" أمريكا أغبياء في السياسة حتى من زاوية ذلك الحرص حين لا يرفضون صهينة أوباما، فلا يجعلونها غالية الثمن بالنسبة إلى مصالح أمريكا؛ ما يحرم معارضيها في الداخل حجّة بضرورة وضع حدّ لها.
طبعاً، هذا الغباء جيد لأنه سوف يسّرع في دهورة النفوذ الأمريكي في بلادنا وفي العالم، كما في تعرية ذلك الحرص والذهاب به إلى التهلكة
نشرت فى 2 أكتوبر 2011
بواسطة barkat2
بركات الضمرانى
قضاياحقوق الانسان والحركه العماليه بالصعيد »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
22,232
ساحة النقاش