جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تواصل الفايروسات بانتظام وبلا كلل تطوير وسائل وأساليب جديدة تتيح لها الاستمرار بإصابة الناس بالأمراض، ولكن العلماء لا يفطنون إلى تطوّر هذه الستراتيجيات الجديدة إلا بعد مرور سنوات أو حتى قرون على حدوثها. غير أن فريقاً من الباحثين من جامعة ولاية مشيغان وصفوا من خلال دراسة حديثة نشروها في مجلة"ساينس" كيف تمكنت الفايروسات من تطوير أساليب جديدة لاقتحام الخلايا وإصابتها بالمرض خلال فترة لا تزيد كثيراً على أسبوعين.
ظهر هذا التقرير في خضم جدال محتدم بشأن فايروس إنفلونزا الطيور القاتل الذي نجح الباحثون من التلاعب بصفاته مختبرياً فجعلوه قادراً على الإنتقال من حيوان لبون إلى لبون آخر. فالمنتقدون لا يتوقفون عن إثارة تساؤلات عمّا إذا كان ممكناً حدوث مثل هذه التغيرات من تلقاء نفسها في الطبيعة مثلما افتعلها العلماء في المختبر، وها هو البحث الجديد يثبت أن الصفات الجديدة، المستندة إلى حدوث طفرات وراثية عديدة متعاقبة، يمكن أن تحدث بالفعل وبسرعة مخيفة.
أجرى الباحثون من جامعة مشيغان دراستهم على فايروس يعرف باسم"لامبدا"، وهو نوع غير مؤذ للبشر بل يصيب خلايا البكتريا المعوية المعروفة بإسم"إي كولاي". من خلال هذا العمل سعى "جاستن ماير"، وهو طالب في السنة المنتهية في مختبر راشيل لينسكي للبايولوجي، إلى معرفة ما إذا كان"لامبدا" قادراً على تطوير طرق جديدة كلّياً لاقتحام خلايا مضيفه.
الطريقة التي يتبعها فايروس"لامبدا" في الأحوال المثالية الإعتيادية للدخول إلى خلايا ضحاياه هي أن يتعلّق بالغشاء الخارجي للخليّة مستعيناً بنوع معيّن من الجزيئات موجود على سطح خلية بكتريا "إي كولاي"، ومن بعد ذلك يبدأ بحقن جيناته وبروتيناته إلى داخل الخليّة البكتيرية.
لذا وضع"ماير" تجربة استطاع من خلالها تجريد"إي كولاي" بشكل كامل تقريباً من تلك الجزيئات التي تمكّن الفايروس من التشبّث بها والعمل، بهذه الطريقة لم تعد تستطيع الدخول إلى خلايا البكتريا سوى قلّة قليلة من فايروس"لامبدا". فإذا ما وقعت أية طفرات وراثية جراء ذلك وسمحت للفايروس باستخدام جزيئات بديلة على سطح الخليّة للدخول فسوف يكون معنى ذلك أن الفايروس الجديد أكثر توفيقاً ونجاحاً من سلفه.
في ظرف خمسة عشر يوماً فقط وجد العلماء أن هناك فايروسات قد بدأت باستخدام جزيئة جديدة تتعلّق بها – وهي قناة في "إي كولاي" تسمى "أومب إف" – ولم يكن فايروس"لامبدا" قد شوهد يستخدم "أومب إف" من قبل.
لم تكن السرعة التي حدث بها هذا التحوّل وحدها هي التي أذهلت"ماير"، بل التحوّل نفسه من الأصل. يقول ماير:"في بادئ الأمر حسبت أن الأمر لن يعدو أن يكون محاولة عقيمة."
وللتأكد لئلا تكون هذه النتيجة قد جاءت عفواً أو بطريق المصادفة أعاد "ماير" التجربة مرة ثانية، وفي هذه المرّة طبقها على 96 خطاً منفصلا، ومرة أخرى تمكّن الفايروس في 24 خطاً من هذه الخطوط من تطوير وسيلة لاستخدام "أومب إف".
رسم العلماء الخارطة الجينية للفايروس المتطوّر الجديد فأذهلهم أن يجدوا أن هذا التحوّل كان يتطلّب دائماً حدوث أربع طفرات وراثية متعاقبة. ففي كل الخطوط التي نجحت في التعلّق بجزئية"أومب إف" كانت الطفرات الأربع جميعاً متحققة ومتشابهة. لم تكن طفرة واحدة كافية لتمكين الفايروسات من التعلّق بالجزيئة، وحتى ثلاث طفرات من الأربع لم تأت بالتأثير المنشود، ولم تتمكن الفايروسات من التحوّل والنجاح إلا بعد استكمال الطفرات الأربع كلها.
هذه النتائج أوحت بأن الطفرات هي التي مكّنت الفايروس من تحقيق مأربه والتعلّق بجدار الخليّة حتى بعد انعدام الجزيئات الأصلية التي يعتمد عليها. يقول ماير:"عندما تتحقق الطفرات الأربع يحصل الفايروس على هذه الوظيفة الجديدة كليّاً."
هذه التجربة الجديدة أعطت العلماء لمحة مدهشة عن السهولة التي يستطيع بها الفايروس أن يطوّر نفسه ويكتسب صفات جديدة، الأمر الذي يمكّنه من التسبب بأمراض جديدة.
كان ثمة جدال ناشب بين الباحثين حول ما إذا كان باستطاعة سلالة معينة من انفلونزا الطيور يطلق عليها"إتش5 إن1" أن تنقلب إلى قاتل للبشر على نطاق عالمي. ففي السنة الماضية أجرى العلماء تجربة على فايروس"إتش5 إن1" الفتاك فوجد أن هذا الفايروس قد تمكّن من اكتساب القدرة على الإنتشار بين اللبائن. وقد حجب العلماء تفاصيل مهمّة عند نشرهم هذا البحث بناء على طلب اللجنة الإستشارية الفدرالية. ولكن وفقاً لما أوردته تقارير الأخبار فإن الفريق المذكور، ومقرّه هولندا، كان قد توصّل إلى أن فايروس إنفلونزا الطيور تطلّب خمس طفرات وراثية لكي يحقق عمليّة التحوّل.
يومها جادل بعض منتقدي الدراسة بأن عملية التطور الطبيعية لن تتمكن من محاكاة التجربة المصطنعة التي أجراها الهولنديون داخل مختبراتهم، لأن احتمال أن يحظى فايروس واحد بكل هذا العدد من الطفرات المتتالية دفعة واحدة ضئيل إلى أبعد الحدود. وحتى في حالة فايروس"لامبدا" كان "ماير" يقدّر أن احتمال حدوث الطفرات الأربع في وقت واحد يقارب واحد في ألف ترليون ترليون. ولكن "لامبدا" تمكن رغم هذا من تحقيق الطفرات الأربع في فترة لم تتعد أسبوعين أو أكثر قليلاً.
يقول الدكتور لينسكي:"هناك دائماً تلك الفكرة بأن كل شيء يجب أن يحدث دفعة واحدة وفي نفس الوقت، ولكن عملية التطوّر لا تعمل بهذه الكيفية."
يقول بول ترنر، وهو عالم بايولوجي متخصص في التطوّر من جامعة ييل وليس من المشاركين في البحث، أن تجارباً مثل هذه قد تسمح للعلماء بأن يتنبأوا بالتطوّر الذي سيطرأ على الفايروسات والبكتريا من قبل حدوثه، وهذا يساعدهم على الاستعداد مسبقاً لظهور أمراض جديدة. يقول الدكتور ترنر:"إنها دراسة تمنحنا أملاً بأننا قد نتمكن مستقبلاً من التنبؤ بقرب حدوث عملية التحوّل."
ساحة النقاش