جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
إذا كان تقدم الأمة رهنا بما يكون عليه أبناؤها من " تكوين " ....
وإذا كانت الأمم المختلفة، وعبر طول الزمان، وتعدد المكان، قد أوكلت للتعليم مهمة تكوين شخصية المواطن وتنشئتها ...
وإذا كان التعليم بناء على هذا قد أصبح هو المدخل المهم للولوج إلى آفاق النهوض الحضارى، والتقدم على كافة الصُّعُد ...
يصبح التعليم بحاجة إلى أن تمده الأمة " بخريطة النهوض الحضارى " الذى تتغياه، وتنشد تحقيقه، وكأن التعليم هنا بمثابة " الصانع "، الذى يطالب " الزبون " بأن يوضح له " ماذا يريد ؟"، حتى يمكن له أن يفكر ويضع ويصمم السبل الكفيلة بتحقيق هذا المطلب ..!
وخريطة النهوض الحضارى، هى صياغة أخرى لما هو متداول بين كثيرين حول ما يُسمى " بالمشروع الحضارى " .
إن من الخطأ الجسيم، أن يتصور البعض أن كل ما هو مطلوب من التعليم هو أن يصمم المسئولون عنه، إدارة، وفكرا، وبحثا :مناهج تعليم على درجة عالية من التقدمية والعلمية، ويضع طرقا لتعليمها تُسَهّل وصول ما نريد إلى الأجيال الجديدة، وأن يصمم كتبا مدرسية تتسم بالجودة والعلمية والبساطة والجاذبية، وأن يوفر معلما على خلق، ويحيط بمادته العلمية إحاطة جيدة، ويعرف جيدا كيف يتعامل مع تلاميذه تعاملا يجعلهم أكثر تقبلا للتعلم، وللتخلق بما هو محمود ومرغوب من طيب السلوك وفاعلية الهمة، وأن يتم كل هذا وذاك فى مبنى تعليمى يتسم بالفعالية التعليمية بكل متطلباتها التى يحددها المهندسون المتخصصون، بالتعاون مع خبراء التربية ...
إن كل هذا مطلوب بالفعل، بل ويشكل آمالا يستشعر ضرورتها كل من جعل التعليم قضية مجتمع، لكنه مستحيل التحقق إلا بناء على ما أشرنا إليه من " خريطة نهوض حضارى " يتفق عليها ساسة الأمة ومفكروها وعلماؤها .
وإذا كان هذا أمرا يتطلب وقتا، بينما حركة الأمة لا تتحمل انتطارا، ولا تطيق توقفا، فإن الأمر، ربما يبدأ بداية ملحة بتحديد ما نسميه " القِبلة " أو " الوِجهة " التى يتجه إليها العمل الوطنى بكل مجالاته، وكل آفاقه.
ومنذ بدأت الأمم التى عرفت بحملها لواء حضارة راسخة مرموقة، لا تخطئ عين الباحث أن يلاحظ كيف أن كلا منها كان يملك " خريطة نهوض "، ربما لم تكن معلنة ومنصوصا عليها فى صفحات، لكن استقراء كل الوقائع والتحركات، وكأنه بالفعل يلتزم بما يكون له من خريطة نهوض .
تستطيع أن تلحظ هذا فى الحضارة المصرية القديمة ،وكيف أن " النزعة الدينية " ،ونشدان مظاهر القوة ، على المستويات العلمية والعسكرية والاقتصادية والتقنية ، تشكل فى مجموعها القَسَمات الواضحة لحركة الحضارة .
وعندما شهدت بلاد اليونان نظامين، تمثل أحدهما فى " أسبرطة "، والآخر فى " أثينا "، وكان الأول ذا توجه عسكرى شمولى، بينما الثانى كان ذا توجه ليبرالى – وفقا لمعايير ومفاهيم العصر – إذا بنظام التعليم فى كل منهما يختلف اختلافا واضحا عن الآخر، مما جعل أسبرطة لا تترك آثارا حضارية، حيث كانت قِبلتها " عسكرية "، " شمولية "، " استبدادية "، على عكس الأمر فى أثينا، مما مكنها أن تنجب مفكرين عمالقة مثل: سقراط ، وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم من أدباء، وفنانين، وساسة
والذى يتأمل مسيرة الحضارة العربية الإسلامية عبر قرون متعددة، ومنذ بدايتها، سوف لا يخطئ البصر بأن كل ما قام فيها من نظم تعليم تمثلت فى الكتاتيب، والمدارس والمساجد، فضلا عن مؤسسات أخرى غير نظامية، مثل " الخوانق "، و" الرُّبُط " و " الزوايا "، وما كان يتم من تعليم فى كل مؤسسة، سواء من حيث تسمية المقررات، وظهور العلوم المختلفة، سوف يلاحظ بكل يسر، أنها فى مجموعها كانت تصطبغ بصبغة دينية بعينها، وكأن هناك " نوتة موسيقية "، وهناك " مايسترو " يشير بحركة يده إلى مختلف العازفين، الملتزمين بما فى " النوتة "، لا يستطيع أحد أن يشذ عنها .
والأمر نفسه، فى دول مختلفة، ونظم سياسية متعددة ...
إن هذا الذى نلح عليه، لا نزعم أنه جديد، فهناك هذا التساؤل الملح الذى يسأله المصريون منذ زمن بعيد : من نكون ؟ وماذا نريد ؟
كانت أبرز الفترات التى علَت فيها الأصوات بمثل هذين التساؤلين، ربما الفترة التى تلت قيام ثورة 1919، وزادت إلحاحا بعد نيل الاستقلال الرسمى عام 1922، وتباينت الردود، وتعددت الإجابات فيما عُرف من اتجاهات : عروبى ..إسلامى ..مصرى ..تغريب ..فرعونية، وهكذا، وفى داخل كل اتجاه، تعددت ألوان الطيف، وتوزع مفكرو مصر ومثقفوها بين هذه الاتجاهات، وما تضمنته من ألوان طيف..
وقد أشاع البعض عن سعد زغلول عدم إيمانه بالتوجه العروبى، وزعموا أنه، أثناء مؤتمر الصلح الذى عقد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، اقترح عليه نفر من المستشارين بأن تتعاون مصر مع ممثلى المناطق العربية فى مطلب الاستقلال، وخاصة فى منطقة الشام، فأجاب متسائلا : ما هو حاصل جمع صفر زائد صفر، زائد صفر ؟ النتيجة الإجمالية سوف تكون صفرا .
وأنا لا أستطيع أن أؤكد إن كان هذا قد حدث بالفعل، أم أنه " إشاعة تاريخية "؟ ذلك أن ثقتنا فى رجاحة عقل الزعيم وحنكته السياسية، ربما فضلت أن نركز أولا على القضية المصرية، حتى نستطيع، بعد ذلك أن نمد يد التعاون مع دول المحيط العربى .
بل إن الوثيقة السياسية الشهيرة عن ثورة يوليو 1952 التى عرفت باسم " ميثاق العمل الوطنى "، قد عابت على ثورة 1919 أنها لم تمد نظرها إلى ما وراء سيناء ..!
لكن وقائع التاريخ تؤكد أن العمل العربى الموحد، بصفة رسمية إنما بدأ فى عهد وزارة الوفد برئاسة مصطفى النحاس، منذ أوائل عام 1944، والذى تمخض فيما بعد بعدة شهور عن إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945.
ومهما اختلفنا حول تقييم ثورة يوليو 1952، فهذا ليس موضوعنا، لكن لا أحد يمكن أن ينكر أنها كانت تمتلك مشروعا، أيضا بغض النظر عن تقييمنا له، ساعدها على أن تفعل، أو لا تفعل كذا وكذا .
إن وظيفتنا هنا ليست الإجابة عن التساؤلين المهمين، المحددين لحركة الأمة ،سابق الإشارة إليهما، وهما : من نحن ؟ وماذا نريد ؟ وإنما هى التشديد على ضرورة أن تتوافر لدينا – كجماعة – الإجابة عنهما .
ليس معنى هذا مصادرة حق كل إنسان أن تكون له رؤاه ، فكم من مناقشات، وكتابات وأبحاث، ومحاضرات، عبر ما قد يصل إلى قرن من الزمان، سعت إلى هذا، بل إننا لا نظن أن أحدا لا يملك الإجابة عن هذين التساؤلين بما فى ذلك كاتب هذه السطور فى كتاب صدر منذ خمس سنوات بعنوان ( الهوية والتعليم )..لكن الأشد إلحاحا، هو توافر " رؤية عامة "، تعبر عن أمة .
وها هنا تكمن المشكلة الأساس للتعليم فى مصر، إذ يجب أن نعترف بغياب التوافق الوطنى على " خريطة نهوض حضارى "، تقوم على التحديد الدقيق عن : من نحن .؟ وماذا نريد؟ ولعل أبرز ما يمكن الإشارة إليه هنا، ما يتضمنه الدستور (1971)، المعبر عن الخريطة الكلية للمسيرة المجتمعية، من نصوص، بعضها ينتمى إلى الخمسينيات والستينيات، حيث كانت " القِبلة " مختلفة كثيرا، كأن تجد نصوصا تؤكد على الرأسمالية والليبرالية، بينما هناك نصوص أخرى تؤكد على الشمولية والاحتكار السياسى، حتى أصبح النص الخاص – مثلا – بتخصيص نسبة 50% للعمال والفلاحين فى البرلمان مثار سخرية الجميع، فضلا عن " سيولة " واضحة فى مضمون العامل والفلاح، تمكن من التلاعب والتحايل !
إن هذا " التيه الحضارى، كان لابد أن يؤدى بكل وزير يتولى شأن التعليم، أن تكون له رؤيته الخاصة، أو رؤية من يعملون معه من مستشارين، فيسعى إلى ترجمتها على أرض التعليم، ويجئ بعده وزير آخر، لا يقتنع برؤية سابقه، و تكون له رؤيته هو الخاصة، فيهدم ما بناه سابقه، ويبدأ البناء من جديد ..وهكذا، مما يفقد تعليمنا القدرة على الحركة الموجهة برؤية متعمقة كلية، تعبر عن الجمهرة الكبرى من أبناء الأمة، والمصالح القومية العامة .
ولعل أبرز ما يمكن أن نشير إليه بهذا الشأن، هو مشروع نظام الثانوية العامة، الذى استغرق إعداده عدة سنوات أيام وزارة الدكتور يسرى الجمل، وقيل أنه عُرض على مجلس الوزراء، وحظى بالموافقة، بل وتحديد جدول زمنى لتطبيقه، حتى إذا ذهب الجمل، وجاء بدر، برزت العلة الفرعونية المحزنة ..لقد أعاد الرجل التفكير مرة أخرى، وكان لابد أن تكون تغييرات، حتى أصبح أبناء الوطن من الصغار، الذين يعدون بالملايين، " فئران تجارب "، ولن نتخلص من هذا الداء الوبيل، إلا بتوافق وطنى حول السؤالين المهمين : من نحن ؟ وماذا نريد ؟ وبناء على ذلك، يمكن تحديد سياسة مستقرة للتعليم..
ساحة النقاش