تمثال برديسي

قصة قصيرة من تأليف عصام قابيل

الحلقة الأولى

***************************

وضع برديسي ، الإبن الوحيد لأمه ، تحت إبطه شيئًا ملفوفًا في العدد الثلاثين من يونية من جريدة أخبار السياسة ، ثم مد رقبته ، ودخل إلى عيادة الدكتور فهمي ، الذي صاح عندما رآه:

- حسنًا يا صغيري . . بم تشعر الآن ؟ أية أخبار طيبة تحملها ؟

أغمض برديسي عينيه ، ووضع يده على صدره ، وقال بصوت خفيض:

- أمي تبعث إليك بتحياتها . وقد كلفتني أن أشكرك - أنا الإبن الوحيد لها - لقد أنقذت حياتي يا دكتور . . شفيتني من مرض خطير . ونحن الإثنان لا نعرف كيف نعبر لك عن إمتناننا ؟!

قاطعه الطبيب:

- لا تتحدث عن هذا يا صغيري . .

استمر برديسي :

ــ إنني الإبن الوحيد لأمي . ونحن فقراء . وبالتأكيد ، في حالة لا تسمح لنا بأن ندفع ثمن العلاج . وهذا يمزقنا يا دكتور . . ومع ذلك ، فإن أمي وأنا - الابن الوحيد لها - نتوسل إليك أن تقبل - كرمز لعرفاننا بالجميل - هذه الهدية القيمة ، من البرونز القديم . . هذا العمل الفني الرائع!

احتج الدكتور:

- إنك مخطئ تمامًا . . على أي شيء كل هذا ؟!

- كلا . . لو سمحت . . لا ترفض (وفتح برديسي اللفة) فإن رفضك يؤلمنا ، أمي وأنا . . فهذا شيء جميل من البرونز القديم . . لقد أحضره إلينا أبي رحمه الله منذ زمن ، ونحن نحتفظ به كذكرى عزيزة . كان أبي يشتري البرونز القديم ، ثم يبيعه للهواة . . والآن نحن نواصل هذه التجارة البسيطة: أمي وأنا . .

ثم رفع برديسي الهدية ووضعها على مكتب الطبيب . كانت عبارة عن كرسي كبير ، من البرونز القديم ، مصنوع بمهارة . ومن القاعدة ينهض تمثال لامرأة عارية تمامًا ، وفي وضع لايمكن وصفه . أما الوجه ، فكان يبتسم في خبث واضح ،وملاكح مفضوحة وعلى نحو يظهرأنها غير قادرة على حمل الكرسي ،وتطلب المساعدة وأنها على وشك أن تقفز من القاعدة لكي تنطلق إلى الحجرة في رقصة عربيدة لا يمكن تخيلها !

وما كاد الدكتور يرى الهدية ، حتى حك أذنه من الخلف بهدوء ثم سعل ، ومخط بدون حماسة ، وغمغم قائلاً:

- أجل . . هذا في الواقع شيء جميل . لكن . . ماذا أقول . . إنه إباحي أكثر من اللازم . . إنه ليس عاريًا فقط . . بل أسوأ !!

- لأي سبب ؟

- الشيطان نفسه لا يمكن أن يتخيل ما هو أكثر شناعة من ذلك . . إن وضع مثل هذا الفحش فوق المكتب يدنس شقتي كلها !

قال برديسي مدافعًا:

- أي تصور غريب هذا الذي لديك عن الفن يا دكتور ! إنه قطعة فنية . تأمله جيدًا . هذا الجمال ، وتلك الأناقة تملأ النفس بالتقدير . إنه يأخذ اللب . . ونحن بتأملنا هذا الكمال الفني ، ننسى الأشياء الأرضية . . انظر أي حركة يصورها ، وأي تعبير دقيق يكشف عنه!

قاطعه الدكتور

- إنني أفهم كل هذا جيدًا يا صديقي . لكن لي أسرة . وأطفال يلهون هنا ، وتأتي لزيارتي سيدات محترمات . .

- بدون شك . إذا أخذنا وجهة نظر الرجل العادي ، فإن هذه التحفة الفنية ستظهر من زاوية أخرى تمامًا . . لكن يا دكتور ، ضع نفسك أعلى مستوى من الشخص العادي . ثم بالإضافة إلى ذلك ، فإن رفضك الهدية سوف يؤلمنا كثيرًا . أمي وأنا . . الابن الوحيد . لقد أنقذت حياتي ! ونحن نقدم إليك أغلى ما عندنا . وما يؤسفني أكثر إنما هو عدم وجود التمثال الآخر الذي يكون مع هذا التمثال: زوجًا رائعًا !

- شكرًا يا عزيزي . . إنني شاكر لك من أعماقي . تحياتي إلى والدتك . ومع ذلك أرجو أن تقدر بنفسك أن أطفالي يلعبون هنا . وتأتي لزيارتي سيدات محترمات . وأخيرًا . . فسوف أحتفظ به . من المستحيل أن أشرح لك السبب . . الأسباب التي . .

- لا شيء يستحق الشرح . ضع التمثال هنا , قريبًا من فازة الزهور. آه . . خسارة كبيرة ألا يكون هنا التمثال الآخر . كم أنا آسف لذلك ! إلى اللقاء يا دكتور . .

بعد رحيل برديسي , تأمل الدكتور التمثال طويلًا , وحك من جديد أذنه من الخلف , وفكر:

" من المؤكد أنه تحفة فنية رائعة . . لكن من المؤسف أن أقذف به . ومستحيل أن أحتفظ به لدي . آه . . إنها مشكلة . . 

‫#‏عصام_قابيل‬


أعجبنيإظهار مزيد من التفاعلاتتعليق

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 70 مشاهدة
نشرت فى 13 مايو 2016 بواسطة azzah1234

عدد زيارات الموقع

150,358