المحكمه الدستوريه العليا
حيث إن السيد رئيس مجلس الوزراء طلب تفسير نص المادة (44) من قانون الخدمة العسكرية والوطنية الصادر بالقانون رقم 127 لسنة 1980 تأسيساً على أن المادة المشار إليها أثارت خلافاً في التطبيق بين محكمة النقض والجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، يدور حول ما إذا كان حكمها يسري على العاملين غير المؤهلين، إذ رأت محكمة النقض بحكميها الصادرين في الطعنين رقمي 216 لسنة 48 ق و1541 لسنة 48 ق أن النص المطلوب تفسيره يسري على كافة المجندين المؤهلين منهم وغير المؤهلين وذلك استناداً إلى أن عبارة الفقرة الأولى من النص المذكور جاءت عامة ومطلقة بالنسبة إلى المجندين المعاملين بأحكامها ومن ثم ينصرف مدلولها إليهم كافة ودون أن يغير من ذلك ما نصت عليه الفقرة الرابعة من تلك المادة من أنه لا يجوز في جميع الأحوال أن يترتب على حساب مدة الخدمة العسكرية عند التعيين أو الترقية أن تزيد أقدمية المجندين أو مدة خبرتهم على أقدمية أو مدة خبرة زملائهم في التخرج الذين عينوا في ذات الجهة، وذلك أن حكم هذه الفقرة وقد اشترط زمالة التخرج، فإن لازم ذلك أن يقتصر تطبيقها على المجندين المؤهلين متى توافر زميل التخرج في ذات الجهة التي عين بها المجند، هذا بينما انتهت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة إلى أن تطبيق المادة (44) سالفة البيان مقصور على الحاصلين على مؤهلات دراسية استناداً إلى أن مفهوم عبارتها وكذلك المذكرات الإيضاحية لقوانين التجنيد المتعاقبة تؤكد أن ضم مدة التجنيد مشروط بأن يكون العامل مؤهلاً، فضلاً عن أن القول بانصراف حكم المادة (44) إلى المجندين جميعاً المؤهلين منهم وغير المؤهلين، مؤداه حساب مدة التجنيد كاملة لغير المؤهلين دون أن يحدها أي قيد، في حين أن مدة التجنيد لا تحسب كلها أو بعضها للمجند المؤهل إذا ترتب على حسابها أن يسبق المجند زميله في التخرج المعين في ذات الجهة وبذلك يكون المجند غير المؤهل في وضع أفضل من المجند المؤهل وهي نتيجة لم يردها الشارع. وإزاء هذا الخلاف في تطبيق نص قانوني له أهميته، فقد طلب السيد وزير العدل بناء على كتاب السيد رئيس مجلس الوزراء عرض الأمر على هذه المحكمة لإصدار تفسير تشريعي للمادة (44) المشار إليها حسماً للنزاع الذي ثار بشأن تطبيقها على ما سلف البيان.
وحيث إن المادة (44) من قانون الخدمة العسكرية والوطنية الصادر بالقانون رقم 127 لسنة 1980 المعدل بالقانون رقم 103 لسنة 1982 تنص على أن "تعتبر مدة الخدمة العسكرية والوطنية الفعلية الحسنة بما فيها مدة الاستبقاء بعد إتمام مدة الخدمة الإلزامية العاملة للمجندين الذين يتم تعيينهم أثناء مدة تجنيدهم أو بعد انقضائها بالجهاز الإداري للدولة ووحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة ووحدات القطاع العام كأنها قضيت بالخدمة المدنية وتحسب هذه المدة في الأقدمية واستحقاق العلاوات المقررة. كما تحسب كمدة خبرة وأقدمية بالنسبة إلى العاملين بالقطاع العام والجهات التي تتطلب الخبرة أو تشترطها عند التعيين أو الترقية ويستحقون عنها العلاوات المقررة وتحدد تلك المدة بشهادة من الجهة المختصة بوزارة الدافع. وفي جميع الأحوال لا يجوز أن يترتب على حساب هذه المدة على النحو المتقدم، أن تزيد أقدمية المجندين أو مدة خبرتهم على أقدمية أو مدة خبرة زملائهم في التخرج الذين عينوا في ذات الجهة. ويعمل بأحكام هذه المادة اعتباراً من 1/ 12/ 1968".
وحيث إن هذه المحكمة، وهي في مجال ممارستها لاختصاصها بالنسبة إلى التفسير التشريعي، إنما تقتصر ولايتها على تحديد مضمون النص القانوني محل التفسير على ضوء إرادة المشرع تحرياً لمقاصده من هذا النص، ووقوفاً عند الغاية التي استهدفها من تقريره، وهي في سبيل استلهام هذه الإرادة وكشفها توصلاً إلى حقيقتها ومرماها، لا تعزل نفسها عن التطور التاريخي للنصوص القانونية التي تفسرها تفسيراً تشريعياً، ولا عن الأعمال التحضيرية الممهدة لها سواء كانت هذه الأعمال قد سبقتها أو عاصرتها باعتبار أن ذلك كله مما يعينها على استخلاص مقاصد المشرع التي يفترض في النص القانوني محل التفسير أن يكون معبراً عنها ومحمولاً عليها.
وحيث إنه يبين من تقصي القوانين المنظمة للخدمة العسكرية والوطنية بدءاً بالقانون رقم 505 لسنة 1955 في شأن الخدمة العسكرية والوطنية وتعديلاته، وانتهاء بالقانون رقم 127 لسنة 1980 الذي حل محل القانون رقم 505 لسنة 1955 المشار إليه أن المشرع تغيا فيها تقرير قواعد المعاملة التي يجب تطبيقها على المجندين في شأن مدة التجنيد التي يدخل حسابها في أقدميتهم أو خبرتهم بالجهة التي عينوا أو يعينون بها.
ولئن كان المشرع قد حدد شروط الانتفاع بهذه المعاملة بتشريعات متعاقبة، فذلك لمواجهة نواحي القصور الذي أسفر عنه تطبيقها بما يكفل رعاية المجند وحتى لا يضار بتجنيده، ودون أن يمتد التعديل إلى الأساس الذي تقوم عليه تلك التشريعات جميعاً، وهو تعلق تطبيقها بالمجندين المؤهلين باعتبار أن هذه الفئة وحدها هي التي قصد المشرع إفادتها من أحكام تلك المعاملة حين جعل إعمالها مشروطاً بألا يسبق المجند زميله في التخرج، فالبين من التشريعات المتعاقبة التي نظم بها المشرع هذا الموضوع، إنها التزمت جميعها نهجاً واحداً قوامه قصر تطبيقها على المجندين المؤهلين، وأفصح المشرع عن ذلك لأول مرة بنص المادة (63) من القانون رقم 505 لسنة 1955 المشار إليه التي تدل عباراتها الواضحة على أن المشرع قصد بتقريرها أن يحتفظ للمجندين المنصوص عليهم في المادة الرابعة من هذا القانون - الذين لم يسبق تعيينهم أو استخدامهم - بأقدمية في التعيين يتساوون فيها مع أقدمية زملائهم في التخرج من الكليات أو المعاهد أو المدارس وذلك عند تقدمهم للتعيين في وزارات الحكومة ومصالحها والهيئات الاعتبارية العامة عقب إتمام مدة خدمتهم الإلزامية مباشرة بشرط أن يثبتوا أن تجنيدهم قد حرمهم من التعيين مع زملائهم الذين تخرجوا معهم، وهو ما يعني انصراف حكم المادة (63) المشار إليه إلى المجندين المؤهلين دون سواهم باعتبار أن هؤلاء هم الذين تصدق في شأنهم زمالة التخرج، وهم الذين يتصور أن يكون التجنيد قد حال دون تعيينهم مع زملائهم الذين تخرجوا معهم.
وحين صدر القرار بقانون رقم 83 لسنة 1968 معدلاً بعض أحكام القانون رقم 505 لسنة 1955 المشار إليه، استعاض المشرع عن نص المادة (63) بنص جديد يتوخى أساساً - وعلى ما جاء بالمذكرة الإيضاحية للقرار بقانون رقم 83 لسنة 1968 - مواجهة أوضاع المجندين الذين لا يستطيعون إقامة الدليل على أن تجنيدهم أو استبقاءهم قد حرمهم من التعيين مع "أقرانهم" وهو شرط كانت المادة (63) تتطلبه كي يحتفظوا بأقدمية في التعيين "يتساوون فيها مع أقدمية زملائهم في التخرج" مما كان يفوت عليهم فرصة التعيين في الوظائف التي كثيراً ما تصل نشراتها وإعلاناتها ومواعيد الاختبارات الخاصة بها متأخرة إلى الوحدات بعد استنفاد مددها، ويخل بتكافؤ الفرص بينهم وبين "زملائهم" الذين لم ينخرطوا في الخدمة العسكرية والوطنية ومن ثم قرر النص الجديد أن تعتبر مدة التجنيد الفعلية الحسنة بما فيها مدة الاستبقاء التي يقضيها المجند بعد انتهاء خدمته الإلزامية كأنها قضيت بالخدمة المدنية وذلك بالنسبة إلى المجندين الذين يتم تعيينهم أثناء التجنيد أو بعد انقضاء مدته في وزارات الحكومة ومصالحها ووحدات الإدارة المحلية والهيئات والمؤسسات العامة وشركات القطاع العام على أن يكون حسابها في أقدمياتهم مشروطاً بألا تزيد "على أقدمية زملائهم في التخرج من الكليات والمعاهد والمدارس" وأن يكون تحديدها بمقتضى شهادة من الجهة المختصة بوزارة الحربية، وبمراعاة أن تعتبر المدة المشار إليها مدة خبرة لمن يعين من "المذكورين" في القطاع العام، وكذلك صدر القانون رقم 38 لسنة 1971 بتعديل المادة (63) من القانون رقم 505 لسنة 1955، المشار إليه وأفصح المشرع في مذكرته الإيضاحية، عن أن التطبيق العملي للمادة (63) قد كشف عن غموض التحديد الوارد بها للمقصود بزمالة التخرج، وأن مفهوم نصها هو أن مدة التجنيد التي يجري حسابها في أقدمية العاملين بالجهاز الإداري للدولة وهيئاتها العامة مقيدة بألا تزيد على أقدمية زملائهم في التخرج من الكليات والمعاهد والمدارس في حين خلت مدة التجنيد المحسوبة كمدة خبرة في القطاع العام من أي قيد مماثل مما ترتب عليه أن يكون المعين بالقطاع العام في مركز أفضل من المعيين بالجهاز الإداري للدولة. لما كان ذلك، وكان البين مما تقدم، أن ما استهدفه القانون رقم 83 لسنة 1971 بتعديل المادة (63) من القانون رقم 505 لسنة 1955 المشار إليه، هو تحديد المقصود بزمالة التخرج من ناحية، وتحقيق المساواة بين العاملين في الجهاز الإداري للدولة والعاملين في القطاع العام في خصوص قيد الحد الأقصى لمدة التجنيد التي يجوز ضمها إلى أقدميتهم أو مدة خبرتهم من ناحية أخرى. فإن المشرع لا يكون قد عدل عن القاعدة التي انتهجها القانون رقم 505 لسنة 1955 في شأن انتفاع المجندين المؤهلين دون سواهم، بالمعاملة المنصوص عليها في المادة 63 منه.
وحيث إن القانون رقم 127 لسنة 1980 بإصدار قانون الخدمة العسكرية والوطنية - الذي حل محل القانون رقم 505 لسنة 1955 المشار إليه - قد صاغ المادة (44) منه - محل التفسير الماثل - بما لا يخرجها في جوهر أحكامها عن المادة (63) المقابلة لها في القانون السابق، وبما يجعل تطبيقها - في جميع فقراتها - مقيداً بألا يسبق المجند زميله في التخرج الذي عين معه في الجهة ذاتها، مما يعني تعلق أحكامها بالمجندين المؤهلين وعدم انصرافها إلى غيرهم، ومن جهة أخرى فإن قالة بانطباق أحكامها على المجندين جميعهم - مؤهلين وغير مؤهلين - أخذاً بعموم عبارة فقرتها الأولى، إنما ينطوي على إهدار لإرادة المشرع التي كشف عنها التطور التاريخي للنص محل التفسير، ويجعل غير المؤهلين من المجندين في مركز قانوني أفضل من المجندين المؤهلين باعتبار أن الفئة الثانية وحدها ستتقيد بقيد زميل التخرج بالنسبة إلى مدة التجنيد التي يدخل حسابها في الأقدمية أو الخبرة في حين تتحرر الفئة الأولى تماماً من هذا القيد وتدخل بالتالي مدة التجنيد كاملة في الأقدمية أو الخبرة بالنسبة إليها، وهي نتيجة لا يتصور أن يكون المشرع قد أرادها أو قصد إلى تحقيقها.
ساحة النقاش