هناك كتاب صغير مهم جداً وضعه مفكر روسى فى القرن التاسع عشر يقال له بليخانوف، عنوان هذا الكتاب "دور الفرد فى التاريخ" يناقش من خلاله المؤلف الدور الذى يمكن أن يلعبه الفرد المتميز والموهوب فى تغيير مسار التاريخ، سواء كان هذا الفرد زعيماً سياسياً، أو ضابطا عسكرياً يغلى بطموحات سياسية، أو حاكماً يملك من السلطة والجاه الكثير، لكنه مسكون بطاقة جبارة تحضه على تغيير الأوضاع التى آلت إليه. أظن أن العودة إلى هذا الكتاب الآن توضح لنا الكثير عندما نتناول ظاهرة الدكتور محمد البرادعى الأمين العام السابق لهيئة الطاقة الذرية. لقد لاح لنا الدكتور البرادعى فى لحظة تاريخية فارقة، مشحونة بيأس كبير من الأمل فى مستقبل أفضل، لا يوازيه سوى رغبة عارمة فى تغيير الأوضاع البائسة التى تعترى مصر العظيمة منذ سنوات طويلة. جاء البرادعى بوجه صبوح وروح أبوية، والناس أسرى نظام غليظ القلب يخطف منهم كل يوم قمراً من أقمار مصالحهم التى اكتسبوها بكفاحهم ونضالهم عبر عقود طويلة، ولم يكتف النظام بسرقة أقمارهم، بل راح ينشر الرعب والخوف فى نفوس الناس من خلال البطش بمعارضيه وتعذيب مواطنيه (حادثة الشاب المسكين خالد سعيد الذى قتلته الشرطة السرية فى الشارع ليست ببعيدة) . ظهر البرادعى إذن فى هذا الوضع المحزن، فنشر رذاذ الأمل فى نفوس الكثير– الشباب خاصة – الذين سئموا الأحزاب الشرعية والمحظورة لعدم قدرتها على التصدى لبطش النظام وجبروته، فالتفوا حول الرجل القادم من خارج النخب السياسية والأحزاب، بل والبلد نفسه. طرح البرادعى ذو الملامح المريحة والصوت الحنون أفكاره حول ضرورة التغيير وآلياته، وهو يتكئ على سمعة دولية طيبة تحميه مؤقتاً – وأكرر مؤقتاً – من التحرش به أو إيذائه، حتى لا يعرض النظام نفسه لتوبيخ الدول الكبرى ( أمريكا تحديداً ) . لكن السؤال: هل ينجح البرادعى فى إحداث التغيير المنشود الذى يبشر به منذ فبراير الماضى حين عاد أول مرة إلى القاهرة واستقبله نحو ثلاثة آلاف من مؤيديه؟ هنا لابد من العودة إلى التاريخ وحكمته لندرك مدى حظوظ الرجل فى إنجاز أحلامه، يقول التاريخ إنه ما من قائد أو زعيم سياسى استطاع أن يزيح سلطة غاشمة من دون نضال سياسى دؤوب قد يستغرق عدة سنوات، وربما عقوداً، وسأذكرك بالقادة والثوار العظام من أول النبى الكريم "ص" الذى ظل يكافح جبروت سادة مكة وعنجهيتهم نحو 23 عاماً سراً وعلانية حتى استتب له الأمر، وهناك ماوتسى تونج الذى قاد ونظم فلاحى الصين وعمالها فى نضال مستميت لمدة تقترب من ربع قرن حتى حقق النصر الكبير فى سنة 1949. وكذلك لينين فى روسيا وكاسترو فى كوبا ونيلسون مانديلا فى جنوب أفريقيا وجمال عبد الناصر هنا فى مصر وغيرهم وغيرهم . كل هؤلاء القادة والزعماء ذاقوا الأمرين وهم ينشرون أفكارهم ورؤاهم بين شعوبهم، فينجذب لهم بعض الناس حيناً، وينصرف عنهم آخرون حيناً آخر، لكنهم أبداً لا ييأسون ولا يرضخون لإغراء السلطة أو بطشها وملاحقتها لهم بالسجن والأذى (النبى الكريم هاجر من بلده مضطراً وماو ولينين وكاسترو سجنوا وجيفارا قتل). باختصار، لا يمكن أن يحالف النصر المؤزر أى قائد أو زعيم سياسى من دون أن يبذل الجهد والوقت والمال من أجل بث وإشاعة أفكاره بين الملايين لاكتساب الأنصار والمؤيدين والمؤمنين بهذه الأفكار، متحملاً فى سبيل ذلك عنت السلطة وتردد الجماهير وجبنها أحياناً، وانقسام الرفاق والحلفاء أحياناً أخرى، فهل قدم الدكتور البرادعى ما يكفى لتحقيق أهدافه النبيلة؟ أرجو ألا تظن أننى أسعى إلى زرع حنظل اليأس فى النفوس من إمكانية إحداث التغيير المأمول بقيادة الرجل، بل أحاول معك أن نضع النقاط فوق الحروف كما يقول البلغاء القدماء. باختصار مرة أخرى: إن إزاحة أى نظام سياسى مستبد لا يمكن أن تتم بين يوم وليلة، لأنها عملية معقدة تحتاج إلى نضال يومى مستمر وشرس قد يمتد سنوات، لأن الذين خطفوا السلطة لن يتركوها بسهولة . والدليل: نحن نتحدث عن التغيير منذ ثلاثين عاماً وأكثر ولا نتيجة. لماذا؟ لأننا نفتقد النضال السياسى اليومى والدؤوب الذى يثمر حتماً فى نهاية المطاف. ترى هل سينجح البرادعى فى قيادة هذا النضال وعمره الآن 68 عاماً؟ اسألوا بليخانوف واسألوه!
عدد زيارات الموقع
266,920
ساحة النقاش