مدونة الأستاذ: رضوان المعطاوي

من وحي القلم أكتب إليكم أحبائي القراء

authentication required

تعليم المرأة والنهوض الحضاري

أثار انتباهي واهتمامي وأنا ألتمس الخيوط الأولى لنسج أحد البحوث العلمية في موضوع : موقف أحد أعلام الفقه المغربي خلال القرن العشرين محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي(1) صاحب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، من بعض قضايا عصره، والتي تميزت بالجرأة في الطرح والاستماتة في الدفاع عن آرائه، إشادة هذا الفقيه بفضل جدته الكبير في تثقيفه وتربيته الأولى إلى جانب والديه،" اللذان كان لهما الاعتناء التام بتربيته وتهذيبه وإصلاح شؤونه ..."(2) ، بحيث خص لها قسطا وافرا في ترجمته لنفسه شارحا فضائلها ومثالبها الجليلة على شخصه، لما امتازت به من صلاح ودين:" فقد كانت على جانب عظيم من التبتل والعبادة ،صوامة محافظة على الصلاة حافظة للسانها وجوارحها على الخروج عن عبادة الله مكبة على طاعته ..."(3).

ويشبه الفقيه الحجوي أثر هذه السيدة الفاضلة في تربيته بالنقش على الحجر دلالة على عمق هذا الأثر ورسوخه في تنشئته وتكوينه، ويصور لنا هذا النقش أحسن وأبدع تصوير بقوله"فهي التي غرست في قلبي عشق العالم والهيام بحفظ القران العظيم واعتياد الصلاة والارتياض على الديانة بحالها ومقالها ...

فمرآة أخلاقها وأعمالها في الحقيقة أول مدرسة ثقَّفت عواطفي، ونفثت في أفكاري روح الدين والفضيلة، فلم أشعر إلّا وأنا عاشق مغرم بالجد والنشاط, تارك لسفاسف الصبيان, متعود على حفظ الوقت ألَّا يذهب إلّا في ذلك، شيق إلى كل تعلم وتهذيب، لا أجد لذلك ألمًا ولا نصبًا، بل نشاطًا وداعية، امتزجت باللحم والدم، لذلك كان حفظي للقرآن والمتون قبل أقراني بكثير, وبدون كبير عناء..."(4).

هذا التأثير العميق الذي رسخ في فكر الفقيه الحجوي جعله يستخلص دور الأمهات المحوري في تهيئة الأجيال وبناء نهضة الأمة، ومن تم تبنى الدعوة إلى وجوب تعليم المرأة(5)، تعليما وضع له خطة واضحة المعالم نبيلة المقاصد، سالكا في ذلك كل السبل لبلورتها على أرض الواقع .

ولن نعجب إذا وجدنا أن قصة الحجوي مع جدته التي تقمصت دور الأم بموافقتها، تكررت بشكل ملفت للانتباه مع نماذج عدة من أمهات جليلات خلد ذكرهن في أمهات الكتب، ربين وأنبتن شيوخا وأعلاما وقادة، ذاع صيتهم وامتد خيرهم ونفعهم، ولعل أمتنا لا زالت ترتشق من رحيق فضلهم الجليل، فها هو الإمام مالك صاحب الموطأ وإمام المذهب يذكر قصته الفريدة مع أمه التي غيرت مساره من التفكير في الغناء إلى ركوب سفينة العلم التي توصل إلى المعالي ،يقول :" قلت لأمي أذهب فأكتب العلم فقالت تعال فالبس ثياب العلم فالبستني ثيابا مشمرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن "(6).كما كانت تحثه على اقتفاء أخلاق المشايخ قبل أخذ العلم عنهم حيث كنت تقول له" : اذهب إلى ربيعة (ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك) فتعلم من أدبه قبل علمه "(7).

وعلى غرار قصة الإمام مالك مع أمه يسرد تلميذه الإمام الشافعي صاحب الرسالة وإمام المذهب الذي نشأ يتيما ،حيث توفي والده بعد ولادته بزمن قصير فتربي في أحضان  والدة صالحة سهرت على حسن رعايته وتوجيهه، حيث رحلت به من مسقط رأسه بغزة إلى مكة  دار الهجرة حيث مستقر أهل العلم والحديث ليلتمس طريق العلم من شيوخها الأجلاء من أمثال مالك بن أنس وإبراهيم بن سعد الأنصاري، حتى جعلت لذته في حياض العلم.

وقصة سفيان الثوري، الذي عاش هو الآخر طفولته يتيما على غرار الإمام الشافعي قصة معتبرة، تبرز بجلاء كفاح الامهات وتضحياتهن في سبيل تنشئة الأولاد وتدليل الصعوبات أمامهم في التماس طريق العلم والمعرفة، فيذكر أمه بلغة يستشف منها عظيم الثناء والعرفان، يقول:" لما أردت أن أطلب العلم؛ قُلتُ: يا ربِّ، لابد لي من معيشة. ورأيت العلم يَدْرُس ؛ فقلت: أُفرِّغ نفسي في طلبه، قال: وسألت الله الكفاية، فكان من كفاية الله له في ذلك الشأن أن قيَّض له أمه التي قالت له: "يا بُنَيَّ، أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي". (8)

ولم تكتفي هذه الأم الفاضلة بالتكفل بتوفير مأكله ومشربه وملبسه ..، بل لازمته بالتوجيه والإرشاد لما فيه صلاح أمره في الدين والدنيا، يحكي عنها أنها قالت له ذات يوم :"يا بني، إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك"(9).

إن قراءة تراجم كبار الأعلام في الفقه والعلم والدين، الذين عرفتهم الأمة الإسلامية تكشف لنا بوضوح أن وراء نبوغهم وشهرتهم أمهات أفاضل من خيرة نساء الأمة وأصفاهن، سهرن على حسن رعاية أبنائهن وملازمتهم بالتوجيه والإرشاد إلى سبل الخير، لرفع شأن الأمة بين الأمم في سياق التدافع الكوني من خلال صناعة أنجم سطع نورها بالمشرق والمغرب في مجالات وميادين عدة.

ولعلنا بعد هذا ننتهي إلى ما انتهى إليه الفقيه الحجوي وأكد عليه في وجوب تعليم المرأة وتهذيبها وتمكينها من مختلف أنواع الإعانة على تربية رجال المستقبل وإعدادهم  لبناء الأمة والحضارة، هذا الاقتضاء وجد له أنصار ودعاة من رجال الحركة الوطنية المغربية بعد الاستقلال ،من أبرز وجوههاالعلامة علال الفاسي، نقتطف بعض ابيات قصيدته "الفتاة المغربية" التي تجسد تبني فكرة ضرورة تعليم المرأة والنهوض باحوالها للتطلع لغذ أفضل.

هيو لتعليم الفتاة سبيله ......حتى تشارك زوجها المتعلم

وتعين في صرح النهوض بناته ....وتقاوم الدم المبيد المعدما

ذبوا عن الفتيات ولتستبسلوا,,,,,,,حتى ينلن المعارف أسهما

وخذوا لهن من التعليم فسيحه ............ومن الدروس مغيبها والمفهما

عار علينا أن تظل فتاتنا,,,,,,,,,,,,,في الجهل غرقى لا تطيق تقدما

فابنوا لها أس الفلاح وجاهدوا...........حتى تمد إلى المعالي سلما(10)

 

الهوامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش

1-محمد بن الحسن الحجوي:فقيه ومفسر مغربي ولد بمدينة فاس سنة 1291ه./1874م درس بجامع القرووين وأذن له شيوخه بإلقاء دروسه به، شعل عددا من المناصب المخزنية السامية بجهاز المخزن المغربي، اشتهر بكثرة التأليف وغزارة الانتاج العلمي ، حيث ترك وراءه زخما من اللآثار ناهزت المائة من أشهرها كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، توفي عام 1376ه/1956.

2-الحجوي، محمد،الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي،الجزء 1،ص 378

3-نفسه

4-نفسه

5-أثارت دعوة محمد الحجوي لتعليم المرأة انتقادات ومعارضة شديدة من قبل بعض الفقهاء المحافظين وبعض رجال المخزن المغربي ،بحيث اعتبروا دعوته هذه بدعة تؤدي إلى سفور المرأة، ومن تم أخذ على عاتقه الدفاع عن حق الفتيات في التعلم مستندا للنصوص الشرعية ووقائع السيرة النبوية ،ولة مقالة محاضرة مشهورة بعنوان "تعليم الفتيات لا سفور المرأة".

6- ابن فرحون، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب ،ص 9.

7-نفسه

8- أبو نعيم، حلية الأولياء،الجزء 6، ص370.

9- ابن الجوزي، صفة الصفوة، الجزء3،ص189.
<!--

10-مقاوم سياسي وأديب ومصلح مغربي، ولد بمدينة فاس  عام 1326هـ/يناير 1910م ، درس بالقرويين انخرط في العمل السياسي مبكرا حيث أشرف على تأسيس حزب الاستقلال إبان فترة الحماية الفرنسية على المغرب ، ويعد أحد أعلام الحركة الإسلامية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، التي دعت إلى نوع من السلفية التجديدية، رفقة محمد عبده ورشيد رضا ومحمد الطاهر بن عاشور وغيرهم, وافته المنية سنة  1394هـ  1974م.

-11علال الفاسي، ديوان علال الفاسي،قصيدة الفتاة المغربية.

 

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 173 مشاهدة
نشرت فى 25 أغسطس 2016 بواسطة attadili

ساحة النقاش

ذ : رضوان المعطاوي

attadili
يسعى هذا الموقع الى ربط الصلة بك لتمتين الصداقة المعرفية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

43,530