النخبة المغربية العالمة وإشكالية الإصلاح .
خلال النصف الأول من القرن العشرين .
رؤية محمد بن الحسن الحجوي لقضية إصلاح النظام التعليمي نموذجا
الطالب الباحث: رضوان المعطاوي
ماستر" التاريخ والتراث الجهوي لتادلا أزيلال"
جامعة السلطان مولاي سليمان-المغرب
شكلت قضية التحديث والإصلاح مطلبا أساسيا واستعجاليا ضمن فكر النخبة المغربية العالمة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، باعتبار طبيعة الظروف العامة التي شهدتها البلاد على المستوى الداخلي ؛ بحيث مثلت القلائل والفتن إحدى تجليات تأزمها الكلي ،ولأهمية ووجاهة المؤثرات الخارجية التي قطعت العديد من الأشواط المتقدمة مستثمرة حصيلة وثمار الثورات المختلفة التي شهدتها على مختلف المستويات لخدمة أهداف التوغل وبسط النفوذ على العوالم المجاورة.
ولقد تبلور هذا المطلب الاستعجالي في مجمل ما خلفته فئة النخبة السياسية المغربية والفقهاء من آثار وإنتاج أدبي وفقهي كالكتابات السفارية والفتاوى الفقهية والرحلات ...،إذ كانت هذه الشريحة المجتمعية بحكم مسؤولياتها ووظائفها، وبفعل اتصالها المستمر بالخارج عبر السفاريات والبعثات المغربية إلى الخارج ، أو عبر الوفود الأوروبية التي كانت تقصد الديار المغربية ، أقدر الفئات الاجتماعية على فهم واستيعاب مقتضيات الواقع التاريخي التي فرضت نفسها وحطت بثقلها على الفكر في إطار المفارقة التاريخية التي مافتئت تتسع بين عالم الإسلام وعالم الغرب الأوروبي.
لقد تعددت ردود فعل المغاربة إزاء الحداثة الأوروبية بعدما ترسخ الوعي باختلال التوازن بين " الأنا" و"الآخر" للإفلات من خطر الاحتلال والاستعمار ومحو الهوية ، واقتنع معظم رجالات المخزن بأن خيار التحديث الوطني وفق ما يعتبر جوهريا من نظم الآخر(1) ،هو السبيل الأنجع لمجابهة التحدي، وفي هذا الإطار ظهرت العديد من الكتابات التي دعت إلى تحديث وإصلاح أجهزة الدولة وأنظمتها من جيش واقتصاد وإدارة ...الخ، وتبلورت العديد من المشاريع الإصلاحية مثلت في مجملها تعبيرا صريحا ومبكرا عن يقظة حديثة، وحس منشغل بالنهوض المجتمعي،غير أن هذا الحراك لم يمنع المتنمرين على البلاد المغربية من وضعها في شراك الاحتلال مع معاهدة الحماية الموقعة سنة 1912م فعرفت البلاد مع هذا النظام الجديد مرحلة جديدة خاضعة لسياسته الاستعمارية .
ويعد الفقيه محمد بن الحسن الحجوي(2) (1874-1956) من أبرز أقطاب النخبة المغربية العالمة التي اشتغلت بالإصلاح وانشغلت به على مستوى الفكر والواقع ،وتعتبر دراسة أفكاره ومواقفه ذات أهمية كبرى في استجلاء الواقع التاريخي الذي شهدته الأمة المغربية خلال الفترة التي عايشها ، وهي فترة تحول عميق مس الدولة والمجتمع؛ إذ عاين المراحل الحاسمة من فترة ما قبل الاحتلال من جهة، وعهد الحماية من جهة ثانية، فعلاوة على المكانة العلمية المرموقة التي احتلها الفقيه الحجوي كأحد أعلام جامعة القرويين البارزين الذين فاقت شهرتهم الغرب الإسلامي، والوظائف المخزنية السامية (3)التي شغلها ،واحتكاكه بالمدنية الأوروبية وانفتاحه على منجزاتها ، والمواقف المتميزة والجريئة التي عبر عنها في مختلف القضايا المطروحة آنذاك ، يمثل إنتاجه التأليفي الغزير(4) والثري سجلا استجمع بين دفتيه الفقيه تجاربه ومشاهداته واجتهاداته الفقهية ومواقفه المتميزة، وأفكاره الجامعة لمشروع إصلاحي طموح.
عمل الفقيه الحجوي على تشخيص الوضع العام الذي آلت إليه البلاد ، والذي كان يمهد لحلول "الحماية" وهذا التمهيد لم يكن عند الحجوي من جهة المعاهدات والأحلاف الثنائية التي عقدتها الدول الأوروبية المتكالبة على البلاد ، ولكنه كان من جهة "الفوضى" الحاصلة في المغرب من داخله (5)، من هنا كان مطلب "النظام" بما يقتضي من شروط ، المدخل الأساس لتحقيق الإصلاح .
ويكتسي مفهوم "النظام" مكانة خاصة في الفكر الإصلاحي للفقيه الحجوي ؛ إذ نجد له حضورا قويا في تفسير التأخر الحاصل في بلاد الإسلام ، والتقدم الهائل ببلاد الغرب الأوروبي ، ومن بين القضايا التي انشغل الفقيه بأمور تنظيمها قضية إصلاح نظام التربية والتعليم ؛ بحيث دعا إلى تحديث برامجه ومناهجه ، وهذا الانشغال الكبير ينطلق من الاقتناع الذي ترسخ في ذهن الفقيه بأهمية العلم وضرورته في حياة الأمم وتحقيق سبل رقيها الحضاري ، والنهوض بقطاعاتها المختلفة ؛ بحيث يقول الحجوي: " بالعلم ارتقت الفلاحة والصناعة والتجارة ، وبه وصلت الدول أوج المعالي "(6)، وأشار إلى أنه بقدر تقدم المعارف والعلوم في الأمم وانتشارها في أفرادها يكون تقدمها(7)،ولعل هذا الاقتناع بالأدوار الطلائعية للعلم في النهوض المجتمعي،يأتي كحصيلة لتجربته التكوينية الغنية والتي تغترف من معين جامعة القرويين التي قضى في رحابها ردحا من الزمن ، طالبا ومدرسا ، ومن انفتاحه على المدنية الأوروبية ؛ بحيث أسعفته الرحلة إلى ديارها على استخلاص أسس التفوق الأوروبي وما يرسي دعامته ، وهي- في نظره-ثلاثة أسس ثابتة :النظام والعلم والتجارة (8)، وهي كذلك بالنسبة للعالم الإسلامي شروط لتجاوز تأخره وتخلفه عن الركب الحضاري ، ومن تم تحصين الشخصية الإسلامية وهويتها الحضارية .
ولما كانت أوروبا قد اهتدت إلى سبل الرقي والقوة ، دعا الفقيه الحجوي إلى الانفتاح على حضارتها واقتباس مقومات التحديث والأخذ منها بأسباب التمدن والرقي ، في غير تعارض مع مقاصد الشرع ،مؤكدا على ضرورة الاجتهاد لمواكبة مقتضيات الوقت بما تطرحه من مستجدات دورية ، منتقدا أحكام التضييق على الأمة ومنعها من مسايرة العصر، غير أن هذا الانفتاح الذي يدعوا إليه الفقيه لا يجب أن يكون على حساب الشخصية المغربية والهوية الإسلامية ،التي ما فتئ الحجوي يؤكد على ضرورة التشبث بمقوماتها المتجدرة في التاريخ ، " فالأبشع -في نظر الحجوي-هو تقليد أوروبا في الأمور المخالفة للدين والتي تكون سببا في اضمحلال قوميتنا ، كالتشبه بهم في أمور العبادة وفي السفور والتهتك والخمور وكالتشبه بهم في الزي"(9)،بل الأجدى هو الأخذ بأسس النهضة والرقي ؛ بحيث يقول : " فليت المغاربة إخواني أن يمعنوا النظر (...) وليعتبروا من حولهم وبمن غبر، ففي التاريخ عبرة لمن اعتبر (...) فلينظروا من حولهم الأجانب الذين هم من كل صوب ينسلون وعلى الأرض التي كنا أزهد الناس فيها يتهافتون ، وليتأملوا أسباب ارتقائهم ، وسلامة ذوق انتقائهم، وشموخ مجدهم ، وعلو كعبهم ،فيجدوا أن أسبابه منحصرة في شيئين : تعليم الأولاد بنين وبنات على التربية الصحيحة الاستقلالية التي تؤهلهم للقيام بعظيم المهمات ، والاحتفاظ بالمال من نقود وعقار ، وحسن الاستثمار"(10).
وقد بذل الحجوي في تبيان وتأكيد مقام التعليم والمقاصد العظيمة التي تتحصل بإصلاح نظامه ؛ بحيث خصه بتناول قضاياه في العديد من مؤلفاته ، ومن أبرزها "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي"،علاوة على إلقاءه للعديد من المحاضرات والخطب في الموضوع ، وتوجيه عدد من الرسائل إلى سلاطين البلاد الداعية إلى توجيه الاهتمام للعلم ورجالته وتفقد مؤسساته " فلا يزال يقرع الأسماع لعله يحصل الإسماع ويتحقق الأمل "(11).
وسعى الحجوي إلى محاربة داء الأمية المستشري بين طبقات المغاربة في البلاد ، معتبرا إياه عدو الإسلام الألذ " حتى يصير جل الأمة يقرأ ويكتب ويحسب ، ويعبر عن ضميره بعبارة صحيحة عربية بدوا وحضرا "(12)، ولتحيق هذا المسعى طالب السلطان بجعل مدارس ليلية لتعلم القراءة والكتابة ، يتعلم فيها الكبار الذين فاقهم التعلم في الصغر ويكون ذلك مجانا(13)،وانطلاقا من الوظيفة السامية التي شغلها كمندوب للمعارف ، عمل الحجوي –مع الدولة الحامية –على تأسيس المدارس والمعاهد ، واستغل المجامع العلمية التي كان يحضرها والخطب والدروس الدينية التي كان يلقيها في مختلف الناسبات ، لإقناع المغاربة بإرسال أبنائهم للعلم في هذه المدارس ؛ إذ كانوا يشككون في مقاصد إنشائها ويعتبرونها وسيلة لتوطيد الوجود الفرنسي المحتل للبلاد، ويشير إلى الصعوبات التي صادفته بالقول :" وكم تحملت من مصادمات وشتائم ممن هم ضد التعليم وهم أكثرية "(14).
ولم يتردد الحجوي في الإشادة بالدولة الحامية لأنها عملت –في نظره- على تشييد المدارس والمعاهد ، وترميم ما اندثر منها ، وعملت على إدخال النظام إلى البلاد ...، فعبر عن امتنانه على ما بذلته من مجهود على هذا المستوى، وفي هذا الصدد يقول:" والمغرب مدين بمنة كبرى لدولة الحماية التي أخذت على نفسها انتشاله من هوة تأخره والنهوض به لمستوى العلم والعرفان "(15).
وظل الحجوي يؤكد على ضرورة الانفتاح على اللغات الأجنبية و العمل علـى تحصيله، ولا سيما اللغة الفرنسية، بحيث يقول : "مهما عرفت اللغة الفرنسية إلا و توصلت إلى قضاء أغراضك بأيسر وسيلة"(16)، غير أن هذا الاهتمام باللغات الأجنبية لا يعني تهميشا للغة العربية، التي حظيت باعتناء الفقيه بحيث ما فتئ يدعو إلى تطويرها لتواكب مستجدات العصر، و أشار الحجوي من جهة أخرى إلى ضرورة الاهتمام بالتعليم التقني و ربط التكوين النظري بالتطبيق، و الأخذ بالعلوم الحديثة الرياضية منها و الطبيعية.
ويدعو الحجوي المتمرس بالتجارة و الخبير بأحوالها إلى وجوب التخطيط لمدارس متخصصة للتعليم التجاري، و لبرامج تمكن من أعداد التاجر المسلم الناجح القادر على منافسة التاجر اليهودي و التاجر النصراني، يلقن خلالها الطالب أسس التعامل التجاري الصحيح من محاسبة وإمساك للدفاتر وملاحظة السوق وحركته في داخل البلاد وخارجها، وتعلم اللغات الأجنبية...17
وفي موضوع إصلاح نظام القرويين، حاول الفقيه الحجوي أن يصور الحالة التي أصبح عليها نظام التعليم في الإسلام من ضعف وفوضى، بعدما كان على حال عظيم من النظام؛إذ بعد أن كان يرتكز في أخذ العلم على المشاهدة والتجربة، انتهي به الأمر كما يقول الحجوي إلى:''اقرأ ما في الكتب وقرر ما يقول الأساتيذ تكن عالما''(17)، والفرق بين النظامين ظاهر كالفرق بين المجتهد والمقلد، كما يسجل الحجوي أن نظام التعليم قد عرف إبعاد مجموعة من المعارف والفنون كانت زاهرة يانعة من قبل، في معاهد العلم ومدارسه كعلم التفسير الذي انصرف الناس عنه متطيرين من درسه (18)و أعانتهم على ذلك السلطة اعتقادا جاهلا منها أنه يكون عن دراسته '' موت السلطان''، وعلم التاريخ- العلم العظيم الذي لا تخفى فوائده- ناله هو الآخر الصد والهجران، وعلاوة على ذلك عرفت النصوص التشريعية الكبرى ومؤلفات الأئمة الكبار إهمالا، مقابل اللجوء إلى استظهار الملخصات، ثم الانتهاء إلى الشروح والحواشي ، ''ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار، وهو جمع الأسفار في سفر واحد، وتقريب المسافة، وتخفيف المشاق، وتكثير العلم وتقليل الزمن''(19).
ويشير الحجوي على" أن كثير من الناس تراهم يحفظون المختصر- يعني مختصر خليل- عن ظاهر قلب، وليسوا بفقهاء"(20)، كما تطرق إلى الوضعية الإدارية للأساتذة التي لم تكن مرضية.
إن هذه الصورة التي حاول الحجوي توضيح معالمها، وهي صورة القرويين ونظام التدريس بها، كان يستوجب إصلاحا مستعجلا لنظامها، على غرار ما عرفته الأزهر بمصر، والزيتونة بتونس.
ولما كان الحجوي قد شغل منصب نائب الصدارة العظمى في المعارف و العلوم, فقد شغله أمر القرويين، التي كانت بالنسبة إليه كما يقول : "أمي وظئري, ومن ثديها العذب إرتضعت وبها أميطت عني التمائم"(21)، عمل على مباشرة إصلاح شأنها ،بعدما أسند إليه نظرها بأمر شريف، فجمع علماء فاس و شاورهم في الأمر، و شرح لهم ما بدا له "من إدخال نظام مفيد وإصلاحات مادية مع إصلاحات أدبية، في أسلوب التعليم أيضا، وإحياء علوم اندثرت"(22)، وجعـل قـانون أسـاسي للقرويين، علـى أن لا يبرم أمر إلا بعد حصـول مـوافقتهم واستحسانهم فقبلوا ذلك، فتشكلت لجنة منتخبة من ضمنهم باسم مجلس العلماء التحسيني للقرويين، وقد تألف هذا المجلس في مجموعه من عشرة أعضاء : رئيس المجلس و ستة أعضاء و ثلاثة خلفاء ، وذلك يوم 21 جمادى الثانية عام 1332هـ/1914م،و قد خلصت لقاءات هذا المجلس التي بلغت ثمانية و عشرين، إلى إصدار مائة مادة و مادتين مقسمة على عشرة أقسام و هي :
القسم الأول: و فيه 22 مادة في نظام المجلس الأساسي، و كيفية تكوينية، وببيان أوقات اجتماعه، ومجالات عمله، وتحديد اختصاصات الرئيس والأعضاء.
القسم الثاني: و فيه سبع مواد في ضابط نظام العالمية و امتحان طالبها.
القسم الثالث : وفيه سبع مواد أيضا، وضعت لتحديد كيفية امتحان المدرسين.
القسم الرابع : و فيه خمس عشرة مادة, تتعلق بإحداث وظيفة شيخ القرويين، وناظرين معه، وتحديد نظرهم و كيفية سير أعمالهم.
القسم الخامس : وفيه سبع و عشرون مادة ،خصصت لضبط مسألة التدريس وامتحان التلاميذ، وتنظيم طبقـات ابتدائيـة و ثـانوية وعـالية, ومدة القراءة في كل طبقة, والصفات المؤهلة لنيل هذا المنصب، وشروط قبول المتعلمين الذين يندرجون في النظام.
القسم السادس: وفيه إحدى عشرة مادة في العطلة السنوية, والرخص الاعتيادية وغيرها، وضوابط ذلك.
القسم السابع : فيه خمس مواد في المجازات على تأليف الكتب وكيفية امتحان المؤلفين ممن يطلبون الجوائز.
القسم الثامن: وفيه أربع مواد في نظام التقاعد ومن يستحقه.
القسم التاسع: وفيه ثلاث مواد تتعلق بالأمور التأديبية لمن خالف الضوابط أو أساء المعاملة أو ارتكب ما يخل بناموس العلم والدين.
القسم العاشر: يعرض هذا القانون على الجلالة اليوسفية لتصادق عليه أوتنقحه، ولا يكون قابلا للتنفيذ إلا بعد ذلك(23).
فما المصير الذي آل إليه هذا المشروع الإصلاحي؟.
يشير الحجوي إلى أن هذا المشروع لو خرج إلى حيز الوجود لكان محييا للقرويين، مجددا لهيآتها التدريسية، تجديدا صحيحا متينا، لكنه يسجل بمرارة على أن القضية تداخل فيها ذوو الأغراض الشخصية،"فبينما نحن نبني ونصلح ونرمم بفاس، وقد شرعوا في الهدم والتخريب في الرباط بغير فاس، وما كدنا نختم القانون المشار إليه حتى صدر أمر شريف برجوعنا''(24).
بعد فشل هذا المشروع الإصلاحي للقرويين، عمل الحجوي على الإتصال من جديد بالسلطان الجديد محمد بن يوسف ووزيره الأعظم محمد المقري، وطرح أمر مشروعه على الإقامة العامة، ملحا على ضرورة الإصلاح.
ولما تبين لسلطات الحماية أن إصلاح القرويين صار أمرا مرغوبا من طرف الجميع، تركت مهمة الإشراف عليه للسلطان، ولكن تحت مراقبتها، واقتراح برامجها، وتلاحقت جلسات المجلس الذي أسسه السلطان، وكان يحضرها الوزير الأعظم المقري والفقيه محمد المعمري ووزير العدلية ووزير الأحباس ورئيس الاستيناف والشيخ أبو شعيب الدكالي والحجوي، وتواصلت جلسات هذا المجلس خلال سنة 1349هـ/1930 م، وانضاف للمجلس عدد من شخصيات الحماية كنوكس.
وكان من نتائج هذا المجلس رسم خطة لإصلاح القرويين، ويتعلق الأمر بالزيادة في رواتب المدرسين، وتحديد عدد الأساتذة الدائمين، ونظم أوقات الدراسة والامتحان وجعل التلاميذ طبقات...
وقد اعتبر الحجوي هذا النظام الجديد مشوها للمشروع الذي كان قد وضعه من قبل، ومع ذلك اعتبره انتصـارا أيضـا؛ إذا احتفظ بالمجلس التحسيني و أضيف للمنظمين قيم خزانة الكتب التي بـذل الحجوي جهودا كبيرة في تنظيمهـا وإصلاحها.(25)
وقد بعث الحجوي برسالة إلى السلطان محمد بن يوسف، يلتمس منه توجيه عنايته بالقرويين، قائلا:"نعم سيدي أمير المؤمنين لكم تأييد رب العالمين، تدارك بحكمتك العلوية النبوية، معهد القرويين، قبل اضمحلال معارفه وعلومه، إن قراءة الدروس فيه صارت سردا من غير فهم شيء من القرآن ولا من الحديث ولا من غيرهما من العلوم.. ''(26).
ولم يقف الحجوي عند حدود إثبات أحقية المرأة في التعليم كحق شرعي وضرورة واقعية؛إذ يرى وجوب تعليم الفتيات وتهذيبهن" تعليما يليق بديننا ويزين مستقبل أولادنا ويصيرهن عضوا نافعا في هيئتنا الاجتماعية"(27)، بل عمل على تقديم برنامج تربوي متنوع, يتضمن العديد من المواد, لترقية البنت "ترقية صحيحة متينة تجمع بين تهذيب الأخلاق و العلم والعمل"(28)،ويتجاوز النمط التقليدي الذي يقتصر في "تعليم المرأة على القراءة و الكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن أو كله من غير فهم و لا استفادة فكر"(29)، كما هو موجود في عدة كتاتيب للبنات في عدة مدن، فإلى جانب ما تتعلمه المرأة من قراءة ما تيسر من القرآن يقترح الحجوي أن تتعلم المرأة ما يلي:
· القراءة و الكتابة و الخط و الرسم.
· ضروريات الحياة من عقائد و عبادات و مبادئ النحو و الآداب العربية.
· تعلم الحساب وحده الأدنى العمليات الأربع, و الجغرافيا و التاريخ و مبادئ العلوم والهندسة العملية.
· الأخلاق الإسلامية تعلما و تخلقا.
· تدبير شؤون المنزل و الاقتصاد و الرشد في الأحوال.
· تدبير الصحة والتربية البدنية.
· فن التربية لتحسن تربية أبنائها.
· تعلم صنعة أو أكثر كالخياطة والفنون الجميلة.
ولتحقيق هذا البرنامج، طالب الحجوي بتطوير مدارس البنات التي هي مدارس أولية صناعية، والرفع من مستواها، وتكوين مدرسات مغربيات مسلمات يساهمن في ترقية التعليم، الذي يخضع لمنافسة قوية وغير متكافئة من طرف الكنائس والمؤسسات التابعة لها(30).
هكذا إذن نرى أن رؤية الفقيه الحجوي لنظام التعليم قد امتازت بالشمولية ، وتندرج الأفكار التي نادى بها بخصوص هذا النظام ضمن مشروع متكامل سلك الفقيه مختلف السبل لإحقاقه على أرض الواقع ، منطلقا من تشخيص دقيق للأحوال العامة التي انتهت إليها البلاد ، مؤمنا بالتحول الاجتماعي ، ومتشبعا بضرورة مواكبة المستجدات الكونية ؛ بحيث وجد في المدنية الأوروبية التي أثرت فكره أنموذجا للإقتداء والأخذ منها لتحيق الرقي المجتمعي من غير أن يكون هذا الأخذ والاقتداء على حساب الهوية والشخصية الإسلاميتين ،داعيا إلى الاجتهاد المستمر والمتواصل بما يقتضيه من إعمال للفكر الإنساني وانفتاح مستوعب للتحديات المختلفة.
الإحـــالا ت:
م.خ.ع= مخطوط بالخزانة العامة
1- حيمر، عبد السلام : المغرب : الإسلام والحداثة ، منشورات الزمن ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ،2005، ص33.
2- اسمه الكامل : محمد بن الحسن العربي بن أبي يعزى بن عبد السلام بن الحسن الحجوي، الثعالبي ، الزينبي، الفاسي.انظر ترجمته صمن مؤلفه، الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي ، دار مصر للطباعة، الطبعة الأولى،1977، ص1.
3- من الوظائف السامية التي شغلها محمد الحجوي نذكر: أمانة ديوانة وجدة على الحدود ، السفارة بالجزائر، نائب الصدر الأعظم في وزارة العلوم المعارف.
4- للمزيد من التفاصيل حول إنتاج الفقيه الحجوي التأليفي انظر: المصادر العربية لتاريخ المغرب لمحمد المنوني .
5- بنسعيد ، العلوي سعيد ، الاجتهاد والتحديث ، دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،ط 2، 2001،ص75.
6- الحجوي، محمد، خطبة ألقاها على تلاميذ مدرسة أولاد الأعيان بالرباط في 1342م، م.خ.ع.ح118ص69 نقلا عن بنعدادة،آسية،الفكر الإصلاحي في عهد الحماية ، محمد بن الحسن الحجوي نموذجا،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،ط1،2003،ص245.
7- الحجوي، محمد،م.خ.ع.ح115.ص159.نقلا عن بنعدادة .مرجع سابق.ص245
8- تتكرر هذه الألفاظ الثلاثة في مجمل فقرات الرحلة الأوروبية لمحمد الحجوي باعتبارها الركائز الأساسية للتفوق الأوروبي: فأوروبا هي بلاد النظام ووطن العلم ودار التجارة.
9- الحجوي ، محمد ،نقلا عن بنعدادة.م.س.ص.240
10- من التقريظ الذي بعثه الحجوي لمعاصره محمد بن الأعرج السليماني على كتابه " اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي حول المغرب"مطبعة الأمنية، الرباط ،1971،ص191.
11- الحجوي، مستقبل تجارة المغرب،م.خ.ع.ح118.ص64 نقلا عن بنعدادة.م.س.ص244.
12- الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي.م.س.ج2.ص389
13- الحجوي، المعارف في المغرب وجهود الحكومة،ص2،نقلا عن بنعدادة.م.س.ص249
14- الحجوي ، م.خ.ع.ح158.ص4.نقلا عن بنعدادة .م.س.ص247
15- الحجوي، م.خ.ع.ح115 نقلا عن بنعدادة .م.س.ص165.
16- الحجوي ، الرحلة الأوروبية صمن ملاحق " أوروبا في مرآة الرحلة الأوروبية،صورة الأخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة "، مطبعة النجاح الجديدة ، ط1، 1995، ص122.
17- بنسعيد، العلوي ، الاجتهاد والتحديث، م.س.صص85.86
18- يشير الحجوي على أنه كان يدرس بالرغم من ذلك ملخصا من جملة تفاسير كالطبري والرازي وأحكام بن عربي ،الفكر السامي،م.س.ص386.
19- نفس المصدر.ص400
20- نفس المصدر.ص402
21- نفس المصدر.ص194
22- نفس المصدر.ص195
23- نفس المصدر.صص.196.195
24- نفس المصدر.ص197
25- بنعدادة، الفكر السامي...،م.س،ص285.
26- نفس المرجع.ص286
ساحة النقاش