رقصة مع الأيام... قصة لروضة الفارسي
في الغرفة الوحيدة ينام الرضيع فوق السرير الحديدي الكبير بعد أن قضى زمنا في بكاء متواصل يدمي القلب. أجلس على "الحشية" مقابلة "الحوش" مسندة ظهري إلى الحائط منتظرة الفرج. على يميني خزانة قديمة، وعلى يساري طاولة فوقها تلفاز معطّب بجانبه بضعة كتب.
تنعكس الشمس على مرآة الجدار الخارجي فتعطي ألوانا مختلفة. تهلّ روائح شجرة المشمش التي زرعها أبي رحمه الله، حاملة حنينا لتوقظ أوجاعا وتزداد غيمة الحزن اتساعا. تعود الذكريات لتتكاثف بداخلي فترقص آلة الذاكرة الحادة، تدميني فإذا بي أستعيد نبأ وفاة زوجي، وأعيش الفاجعة من جديد.
تدفع أمي الباب متثاقلة حزينة، فأعترضها بكل أمل ونقف تحت الشجرة تسألني إن كان رائد قد تحسّن، فأخبرها أن حالته على ما هي عليه، التهاب الحنجرة سبّب له ارتفاعا في الحرارة، وعلاج المستوصف لم يعط أي نتيجة.
تخبرني أمي بمرارة أنها توسّلت لصاحب المزرعة التي تعمل بها أن يقرضها بعض المال، لكنه لم يرحم دموعها ولا رجاءها. كيف لمثله أن يرحم أمثالنا وكل وقته مليء بالمشاريع. في قريتنا الكل يتحدث عنه وعن حسناته، فقد ساهم في بناء الجامع واشترى له ثريات فخمة وزرابي باهظة الثمن، يظهر في كل مجمع واجتماع ليستمع إلى إطراء الناس ويستمتع بمدحهم لإيمانه وأخلاقه وكرمه.
تقفز قطتنا من فوق شجرة المشمش على كتفي، تتمسح بي فأبادلها لمسات الحب مبتسمة رغم الألم. ألمس يد أمي بحنان، كل منّا تنظر للأخرى بشفقة وبحزن يقارب اليأس لضيق ذات اليد والعجز.
كيف يمكننا الحصول على نقود لحمل الرضيع إلى الطبيب ونحن لا نكاد نملك قوت يومنا؟
ـ سأذهب الآن إلى الصلاة وبعد ذلك سنرى ما يمكن عمله.
ـ سأتوضأ وألحق بك لنصلي معا لعل الله يفرج كربنا.
إثر الدّعاء تتذكر أمي أن عمي الهادي قريبها في الضّيعة المجاورة يريد شراء حمارنا، فتقرر أن تذهب إليه. بعد ساعات يعودان معا ويتجهان إلى الحمار، وبعد حوار قصير يبدأ عمي الهادي بعدّ النقود و يسلّمها إلى أمي، ثم يبدأ بجرّ الحمار الذي يحرن لأنه لا يريد مرافقة الرجل الغريب الذي يقوده بعيدا عن بيته.
نأخذ رائدا إلى الطبيب فيحقنه بمضاد للحرارة ثم يكتب وصفة الدواء ويطمئننا على صحته.
يسدل الليل ستاره الأسود، وتأتي نسائم الصيف محمّلة بالانفراج، أشرع في إرضاع صغيري الذي تحسّن وعاد يقبل على الرضاعة بعد أن كان يرفض تناول أي شيء طيلة اليوم.
أذكر الرزاق و أتفاءل خيرا لعلّه يفرج هذه الضائقة المالية. منذ حين جاءت جاراتنا لزيارة الصغير، كل منهن جاءت بهدية، فاجتمع لدينا البيض والدجاج وبعض الغلال.
الصحن اللامع في السماء يرمقني بنظرات خلابة لا تقاوم، والحفيف الهامس بالأمل يفتح طاقة للفرح والفرج. مع توحّد الطبيعة المبهج أعود للنور بداخلي، يأتي صوت الناي من كيان جارنا القريب تداعب نغماته أعماق روحي وتبعث في كل الوجود ذبذبات كونية ساحرة فيقربني أكثر إلى الكائن الذي بداخلي.
تُحكم أمي غلق الباب، ثم نتمدّد على السرير العتيق يتوسطنا الصغير طامعتين في النوم بعد ليلة ويوم من العذاب. استحضر وجه الحمار وعينيه المتوسلتين ألا نترك الغريب يأخذه فتخنقني العبرة.
تقول أمي بصوت واهن.
ـ لماذا تبكين وقد تحسن ابني كثيرا؟
ـ إنما أبكي الحمار.
ـ آآآه يا ابنتي ما أشد قسوة الحياة! سأذهب غدا بإذن الله للهادي وأتوسّل إليه أن يعيد لي الحمار على أن أسدّد له الدّين بالقسط.
نستيقظ على صوت ضجيج... نقفز منزعجتين ها قد أضاء النهار وها هو الحمار منهك القوى محملا بالأشواق قد أفلت من رباطه وعاد إلى صاحبتيه.
نشرت فى 3 ديسمبر 2013
بواسطة ateffahd