لقد توج سليمان بن عبد الملك أعماله الصالحة بتولية عمر بن عبد العزيز الخلافة من بعده ما توسمه فيه من الصلاح والتقوى والميل إلى العدل، والحق أن عمر لم يكن راغبًا في الخلافة، فيروي أن عمر بن عبد العزيز بعد أن فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك صعد المنبر، واجتمع الناس فقال: "أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طِلْبةَ له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فتولَّ أمرنا باليُمنِ والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي به الناس جميعًا، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال:" أوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خلف كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه...... ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيهاالناس من أطاع الله وجبت طاعتُه، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.

الحرص على العمل بالكتاب والسنة:

من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة، ونشر العلم بين رعيته، وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به، فهو يرى أن من أهم واجباته تعريف رعيته بمباديء دينهم، وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه قال في إحدى خطبه: إن للإسلام حدودًا وشرائع وسننًا، فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلئن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أَمِتْ فما أنا على صحبتكم بحريص، وقال أيضً: فلو كانت كل بدعة يميتها الله على يديَّ، وكل سُنَّة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرًا، وفي موضع آخر قال: والله لولا أنعش سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقًا، لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم الناس وتثقيفهم إلى مختلف أقاليم الدولة،وفي حواضرها وبواديها وأمر عماله على الأقاليم بحثِّ العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي بعث به إلى عماله: ومُرْ أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، ليتحدثوا به في مجالسهم، ومما كتب به إلى بعض عماله: أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السُّنَّة كانت قد أميتت، كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء، ليتفرغوا لنشر العلم، وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك ليفقه بني نمير ويُقْرِأهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم السنن، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى أفريقية يفقهون أهلها.

ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه بعض الولايات، ومنهم من تولى القضاء وأسهم أكثرهم -بالإضافة إلى نشر العلم- في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر لتعليم الناس، تفقيههم بأمور دينهم له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن نشر الوعي الديني الصحيح والفقه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي والأمني، كأفكار الخوارج وغيرهم.

إقامة العدل لأهل سمرقند:

عندما وصل خبر تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة إلى سكان ما وراء النهر، اجتمع أهل سمرقند، وقالوا لسليمان بن أبي السري: إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف؛ فَأْذَن لنا فلْيَفِدْ منَّا وفد إلى أمير المؤمنين، يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أُعطِينَاه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم سليمان، فوجهوا منهم قومًا فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان بن أبي السري: إن أهل سمرقند قد شكوا إليَّ ظلمًا أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم أخرجهم من أرضهم فإذا أتاك كتابي، فأَجْلِسْ لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم ـ يعني المسلمين الغزاة ـ إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم قتيبة، فأجلس سليمانُ جُمَيعَ بن حاضر القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة، فقال أهل الصغد ـ قوم يسكنون بعض بلاد ما وراء النهر ـ بل نرضى بما كان ولا نجدد حربًا، وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأَمَّنُونا وأَمِنَّاهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب، ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا.

أية دولة في القرن الحادي والعشرين تحني رأسها هكذا للعدل كي يأخذ مجراه، وللحق كي يعود إلى أصحابه؟ وأي حاكم في تاريخ الشعوب استجاب هكذا لنداءات المظلومين الذين سُلِبَتْ حقوقهم، كهذه الاستجابة السريعة الحاسمة من عمر بن عبد العزيز؟ إلا أنه المسئول الذي نذر نفسه للدفاع عن قيم الحق والعدل في أقطار الأرض فبدونها تفقد شريعة الله مقوماتها وأهدافها العليا، فهذا مثل رفيع من عدل عمر، وإننا لنلاحظ في هذه الخبرة عدة أمور:

ـ إن الناس يقبلون على التظلم والشكوى والمطالبة بالحقوق حينما يكون الحكام عادلين لأنهم يعلمون أن دعواهم ستؤخذ مأخذ الجد، وسسُنظر فيها بعدل، فهؤلاء المتظلمون قد سكتوا على ما هم فيه من الشعور بالظلم طيلة ولاية الوليد وسليمان، فلما رأوا عدل عمر بن عبد العزيز رفعوا قضيتهم.

ـ إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لم يمهل قضيتهم وإنما أحالها إلى القضاء الشرعي، وهذا مثل من الخضوع للإسلام، والتجرد من هوى النفس، وكان باستطاعته أن يفعل كثير من المسئولين، من إرسال خطابات الوعيد والتهديد والبحث عن رؤوس القوم وإجراء العقوبات المناسبة عليهم، ولكنه قد نذر نفسه لرفع المظالم وإقرار العدالة، وذلك لا يكون إلا بحكم الشرع والتحكم إليه.

ـ إن أولئك القوم قد أسقط في أيديهم لما اطلعوا على كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ورأى أهل الرأي منهم أنهم خاسرون في كلا الحالتين، سواء حُكِمَ لهم أو عليهم، وأن مصلحتهم في بقائهم على ما هم عليه، وبهذا زال تظلمهم وشعروا بعدالة الحكم الإسلامي.

مسئولية الخلافة:

كان عمر بن عبد العزيز يدرك عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، وأنه مسئول عن كل فرد في رعيته، فلذلك نجده دائم التفكير فيما يصلحهم فقد أهمه وقوفه بين يدي ربه، وماذا يقول له إذا سأله عنهم يوم القيامة، فيذكر ابن كثير: أن زوجته فاطمة بنت عبد الملك دخلت يومًا عليه وهو جالس في مصلاه واضعًا خده على يده ودموعه تسيل على خديه؛ فقالت له: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي ـ عز وجل ـ سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت..

الرفق بالرعية:

كان عمر بن عبد العزيز يقول: إن أحب الأمور إلى الله القصد في الجد، والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق عبد بعبد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة، فيُروى أنه خرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان فشجَّه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاءوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم، فإذا مُرَيْئَة تقول: إنه ابني وإنه يتيم؛ فقال لها عمر: هوِّني عليك، ثم قل لها: أله عطاء في الديوان؟ فقالت: لا، فقال: اكتبوه في الذرية، فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك؟ فعل الله به وفعل، المرة الأخرى يشج ابنك ثانية، فقال: ويحك إنه يتيم وقد أفزعتموه..

atefabdelfattahali

عاطف عبد الفتاح على

  • Currently 80/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
26 تصويتات / 551 مشاهدة
نشرت فى 29 مارس 2010 بواسطة atefabdelfattahali

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

26,912