إن البحث العلمي واحد من أوجه النشاط المعقدة التي يمارسها العلماء باستقصاء منهجي في سبيل زيادة مجموع المعرفة العلمية وتقنياتها، ويطلق على العلم المعني بطرائق وأساليب البحث في العلوم الكونية للوصول إلى الحقيقة العلمية أو البرهنة عليها اسم ) علم مناهج البحث ( (Methodology) كما يطلق على منهج البحث في العلوم الكونية التيتبحث في الظواهر الجزئية للكون والحياة اسم ( المنهج التجريبي الاستقرائي)، ويقصدبه منهج استخراج القاعدة العامة (النظرية العلمية) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا إلى الملاحظة والتجربة.وينسب الكثير من المؤرخين وعلماء المناهج الفضل في اكتشاف هذا المنهج إلى العالم الانجليزي (فرنسيس بيكون) الذي وضع إبان عصر النهضة الأوربية الحديثة كتابه المشهور "الأورجانون الجديد " ويعني به منهج البحث التجريبي، ليعارض به أرسطو في كتابه " الارجانون القديم".ويشهد استقراء تاريخ الفكر البشري بأن علماء الحضارة الإسلامية كانوا أسبق من الغربيين إلى نقض منطق أرسطو النظري واتباع المنهج التجريبي قبل بيكون بعدة قرون ، فقد استطاعوا أن يميزوا بين طبيعة الظواهر العقلية الخالصة من جهة، والظواهر المادية الحسية من جهة أخرى، وفطنوا إلى أن الوسيلة أو الأداة التي تستخدم في هذه الظواهر يجب أن تناسب طبيعة كل منها، ويعتبر شيخ الإسلام (ابن تيمية) من أوائل العلماءالمسلمين الذين نقدوا منطق أرسطو الصوري ، حيث هاجمه بعنف في كتابه ( نقد المنطق) ودعا إلى الاستقراء الحسي الذي يصلح للبحث في الظواهر الكونية ويوصل إلى معارف جديدة.سبق المسلمون:اتجه علماء الحضارة الإسلامية إلى المنهج التجريبي الاستقرائي عن خبرة ودراية بأصوله وقواعده، وأحرزوا على أساسه تقدما ملموسا في حركة التطوير العلمي والتقني ، فهذا هو (الحسن بن الهيثم)على سبيل المثال لا الحصر - يصف ملامح المنهج التجريبي الاستقرائي الذي اتبعه في بحث ظاهرة الإبصار بقوله (... رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان،ونخلص العناية به ،ونوقع الجد في البحث عن حقيقته ،ونستأنف النظر في مباديه ومقدماته،ونبتدئ باستقراء الموجودات ،وتصفح أحوال المبصرات ، وتمييز خواص الجزئيات ،ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار ،وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه منكيفية الإحساس... ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب ، مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى - في سائر ما نميزه وننتقده - طلب الحق لا الميل مع الآراء... فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر ، ونصلب التدرج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين ، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف ، وتنحسم بها مواد الشبهات... وما نحن من جميع ذلك براء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية ، ولكننا نجتهد بقدر مالنا من القوة الإنسانية... ومن الله نستمد العون في جميع الأمور ) (1) .مقومات المنهج العلمي:ويوضح هذا النص بما لا يدع مجالا للشك أن القواعد العامة التي وضعها (ابن الهيثم) لمنهج الاستقراء تتميز عن قواعد المنهج ( البيكوني) بأنها ليست مجموعة من التعليمات والإرشادات التي تلتزم ترتيبا محددا لا ينبغي تجاوزه ؛ مما يضفي عليها قدرا كافيا من المرونة يحول دون جمودها أمام حركة العلم وتطوره. كذلك تعكس عبارات (ابن الهيثم) كثيرا من خصائص العلم التجريبي ومقومات نجاحالبحث العلمي التي افتقدها كل من (المنطق الأرسطي) و(المنهج البيكوني ) وتوضح المقارنة أن التجريبية خطوة مقصورة في أسلوب البحث العلمي عند علماء المسلمين.من ناحية أخرى يتضح من القراءة المتأنية للنصوص العلمية في التراث الإسلامي أن الفضل في اكتشاف المنهج العلمي ( التجريبي الاستقرائي ) لا ينسب إلىعالم إسلامي بعينه على غرار ما يقال عادة عن منهج (أرسطو) أو (بيكون) أو (ديكارت) بل إنه يعزى إلى علماء كثيرين مهدوا له في مختلف فروع العلم، فها هو (جابر بن حيان)يلقي مزيدا من الضوء على خصائص المنهج التجريبي الذي اتبعه فيؤكد أن "لكل صنعة أساليبها الفنية " ويحذر من الإفراط في الثقة بنتائج تجاربه بالرغم من موضوعيته في البحث العلمي فيقول: (إنا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط - دون ما سمعناه أوقيل لنا أو قرأناه - بعد أن امتحناه وجربناه ، وما استخرجناه نحن قايسناه على أقوال هؤلاء) ويقول أيضا: (ليس لأحد أن يدعي بالحق أنه ليس في الغائب إلا مثل ما شاهد أوفي الماضي والمستقبل إلا مثل ما في الآن) (2) ..ونجد في مؤلفات (الرازى) و(البيرونى)و(البتانى) و(البوزجانى) و(التيفاشى) و(الخازنى) و(ابن النفيس) و(ابن يونس) وغيرهمما يؤكد إيمانهم بالمنهج الجديد في تحصيل الحقيقة العلمية وممارستهم لهذا المنهج عن إدراك وفهم دقيق لكل مسلماته وأدواته وخصائصه وغاياته ، وفي هذه الحقيقة الهامة يكمن السر - الدافع - وراء نجاح هذا المنهج ومواكبته لحركة التقدم العلمي التي حثت عليهاتعاليم الإسلام الحنيفة ومبادؤه السامية متمثلة في آيات القرآن الكريم والأحاديثالنبوية الشريفة التي تكرم العلم والعلماء، وتحث على إعمال العقل، ومداومة البحث في ملكوت السموات والأرض ، وتحرر التفكير من القيود والأوهام المعوقة للكشف والإبداع، وتحارب التنجيم والتنبؤ العشوائي والتعصب للعرق والعرف ، وتحذر من الاطمئنان إلى كلما هو شائع أو موروث من آراء ونظريات، ولا شك أن هذا كله أوسع وأشمل مما يعرف بأوهام الكهف والسوق والمسرح والجنس ، وهى الأوهام الأربعة المنسوبة (لبيكون) والتيكثيرا ما يباهي بها فلاسفة العلم وشراح المنهج العلمي (3) .القرآن الكريم... نقطة الانطلاق:وتدلنا قراءة التراثالإسلامي على أن المسلك الذي اتبعه علماء الأصول وعلماء الحديث في الوصول إلى الصحيح من الوقائع والأخبار والأقوال قد انسحب على أسلوب التفكير والتجريب في البحث العلمي ، فنرى على سبيل المثال - أن (الحسن بن الهيثم) يستعمل لفظ الاعتبار (وهو لفظقرآني) ليدل على الاستقراء التجريبي أو الاستنباط العقلي ، ويستخدم قياس الشبه في شرحه لتفسير عملية الإبصار وإدراك المرئيات ، كذلك نجد (أبا بكر الرازي) يستخدم الأصول الثلاثة: الإجماع، والاستقراء، والقياس في تعامله مع المجهول، فهو يقول: ( إنا لما رأينا لهذه الجواهر أفاعيل عجيبة لا تبلغ عقولنا معرفة سببها الكامل لم نر أن نطرح كل شيء لا تدركه ولا تبلغه عقولنا ؛ لأن في ذلك سقوط جل المنافع عنا ، بل نضيفإلى ذلك ما أدركناه بالتجارب وشهد لنا الناس به ، ولا نحل شيئا من ذلك محل الثقة إلا بعد الامتحان والتجربة له.. ما اجتمع عليه الأطباء وشهد عليه القياس وعضدته التجربة فليكن أمامك ).ولقد استند علماء الحضارة الإسلامية على اختلاف تخصصاتهم - في ممارستهم للمنهج العلمي - إلى مبادئ أساسية استمدوها من تعاليم دينهم الحنيف ، ويمكن إيجازها فيما يلي (4):1ـ عقيدة التوحيد الإسلامي هي نقطة الانطلاق في رؤيةالإنسان الصائبة لحقائق الوجود قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ.خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ. الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ. عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ( سورةالعلق: آية 1 - 5 ) فالله سبحانه وتعالى هو الحق المطلق ، وهو مصدر كل الحقائق المعرفية الجزئية التي أمرنا بالبحث عنها واستقرائها في عالم الشهادة باعتبارها مصدرا للثقة واليقين ، وليست ظلالا أو أشباحا كما نظرت إليها الثقافة اليونانية قالتعالى: )سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ ) (سورة فصلت: 53(.2 ـ الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى يستلزم بالضرورة العقلية أن يرد الإنسان كل شيء في هذا الوجود إلى الخالق الحكيم الذي أوجد هذا العالم بإرادتهالمباشرة المطلقة على أعلى درجة من الترتيب والنظام والجمال، وأخضعه لقوانين ثابتة لا يحيد عنها، وحفظ تناسقه وترابطه في توازن محكم بين عوالم الكائنات، وقد شاءت إرادته تعالى أن تبين لنا من خلال نظام الكون ووحدته اطراد الحوادث والظاهرات كعلاقات سببية لنراقبها وندركها، وننتفع بها في الحياة الواقعية بعد أن نقف على حقيقة سلوكها ونستدل بها على قدرة الخالق ووحدانيته، والانطلاق في التفكير العلميفي إطار المفهوم الإيماني يجعل الطريق مفتوحا دائما أمام تجدد المنهج العلمي وتطوره بما يناسب مع مراحل تطور العلوم المختلفة ، كما أنه يضفي على النفس الاطمئنان والثقة اللازمين لمواصلة البحث والتأمل ، وينقذ العلماء من التخبط في التيه بلا دليل، كالإحالة على الطبيعة أو العقل أو المصادفة ، أو ما إلى ذلك من التصورات التي طرحتها الفلسفات الوضعية المتصارعة قديما وحديثا وأصابتها بالعجز والعطب. قال تعالى )مّا تَرَىَ فِي خَلْقِ الرّحْمَـَنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىَ مِن فُطُورٍ. ثُمّ ارجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) ( سورة الملك آية:( 3-4.3 ـ منهج البحث والتفكير يقوم في المفهوم الإسلامي على التأليف بين العقل والواقع ، ويعوَّل في اكتساب المعرفة على العقل والحواس وباقي الملكاتالإدراكية التي وهبها الله للإنسان، وقد حملنا الله سبحانه وتعالى مسئولية استخدام وسائل العلم وأدواته في مواضع كثيرة من القرآن الكريم مثل قوله تعالى: ) وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( سورة النحل:78 ) وقوله سبحانه: ( إِن ّالسّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولـَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) سورة الاسراء 36 ) وقوله عز من قائل: ) أَلَمْ نَجْعَل لّهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَينِ) (سورةالبلد 8-10) ..وهكذا نجد أن علماء الحضارة الإسلامية قد تشربوا تعاليم دينهم الحنيف واصطنعوا لنفسهم منهجا علميا إسلاميا تجاوزوا به حدود الآراء الفلسفية التي تميزت بها علوم الإغريق، وانتقلوا إلى إجراء التجارب واستخلاص النتائج بكل مقومات الباحثالمدقق ، مدركين أن لمنهجهم الجديد شروطا وعناصر نظرية وعملية وإيمانية يجب الإلمام بها، وتكشف قراءتنا المتأنية لعلوم التراث الإسلامي عن سبق علماء المسلمين إلى تحديد عناصر المنهج العلمي بما يتفق مع كثير من المسميات والمصطلحات الجديدة التي يتداولها اليوم علماء المنهجية العلمية مثل أنواع الملاحظة والتجربة (الاستطلاعية الضابطة الحاسمة) ومقومات الفرض العلمي ، واستخدام الخيال العلمي في المماثلة بين الظواهر المختلفة والكشف عن الوحدة التي تربط بين وقائع متناثرة.وليس هناك من شك في أن الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى تعتبر حلقة هامة في تاريخ العلم والحضارة بما قدمه علماؤها من تأسيس لمنهج علمي سليم ساعد على تطوير معارف جديدة، لكننا في عالمنا الإسلامي لا نزال بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة تراثنا بأسلوب العصر ومصطلحاته،ليس فقط من أجل تحديث الثقافة العلمية الإسلامية ، بل أيضا من أجل أسلمة طرق التفكيرالعلمي طبقا لخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، إن إسلامية المعرفة بعامة والمعرفة العلمية بخاصة يجب أن تكون من الروافد الأساسية للصحوة الإسلامية المنشودة.
المصدر: إعداد
الباحثه أسماء الكيلانى
إن أهم سبب في االابتهاج بالحياة هو أن يكون للإنسان ذوق سليم ومهذب يعرف كيف يستمتع بالحياة..وكيف يحترم شعور الناس ولاينفص عليهم ...بل يدخل السرور على أنفسهم...فالذوق السليم قادر على استجلاء القلوب وإدخال السرور على نفس صاحبه ومن حوله.. أحمد أمين
نشرت فى 20 إبريل 2012
بواسطة asmaaelkelane
أسماء محمد أحمد الكيلانى
الباحثه / أسماء الكيلانى فى التاريخ الإسلامى والتاريخ العام _ دراسات عليا »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
27,529
حيــــاتى كـــــــلها للـــــه
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
أيها الناس احتسبوا أعمالكم .. فإن من احتسب عمله .. كُتب له أجر عمله وأجر حسبته
سُئل الإمام أحمد :
متى يجد العبد طعم الراحة ؟
فقال : عند أول قدم يضعها في الجنة !!
قال مالك إبن دينار :
اتخذ طاعة الله تجارة تأتيك الارباح من غير بضاعة ..
قال وهيب بن الورد:
إن استطعـــت ألا يسبقـــك الى الله أحـــد فافعــــــل
قال عمر بن عبد العزيز :
إن الليل والنهار يعملان فيك
فاعمل أنت فيهما .
قال الزهري رحمه الله :
مــا عُـــبـِد الله بشيء أفضل من العلم
ساحة النقاش